لماذا قرّر التيار الوطني الحر فتح معركة الفساد، بإخبارات ودعاوى قضائية، اليوم؟ من مصرف لبنان وحاكمه، إلى قائد الجيش السابق وأركانه، وصولاً إلى وزارة المهجرين. أسئلة كثيرة تُطرح، في السياسة، عن «الهجوم العوني» القضائي. ثمّة أجوبة كثيرة يجري التداول بها، تمحورت غالبيتها حول وضع هذه التحركات في سياقين: الأول آنيّ، يتصل بـ«الضغط الحكومي على كل من الرئيس المكلّف سعد الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط». أما الثاني، فيهدف إلى الانتقال من الحالة الدفاعية التي حُشِر فيها التيار منذ 17 تشرين 2019 حتى اليوم، إلى حالة هجومية على القوى التي استفادت من حشر التيار، أو شاركت فيه.ينطلق التيار من هنا لنقض كل الأسباب التي يرى أنها «لُفِّقَت له نتيجة ادعائه على فاسدين»، خصوصاً تلك التي تتعلق بالحكومة. فأصلاً «البازار الحكومي غير موجود، وعلى افتراض أن هناك كباشاً ما، فغالباً لأن جهة ما تريد الاستيلاء على الحصة المسيحية أو فرض شروطها عليها».
وفي هذا السياق، لا مشكلة بين رئيس الجمهورية ميشال عون أو رئيس التيار جبران باسيل مع بري على الوزراء المسيحيين، بل تصف المصادر العونية العلاقة معه بأنها في أفضل حالاتها رغم المناوشات الإعلامية. فللمرة الأولى منذ سنوات، يتحدث العونيون عن تعاون بري معهم، واستجابته سريعاً مع رسالة عون حول التدقيق الجنائي من خلال عقده جلسة سريعة للبرلمان ثم خروجه بتوصية كما أرادوا. وهو ما يجري تفسيره بإيجابية تامة وأنه فاق توقعاتهم. وبالتالي كل اللعب على مشكلة حكومية أو شخصية مع عين التينة «في غير محله»، ولا يستفيد منها التيار، بل يدرك عون وباسيل جيداً أن أي شدّ حبال مع بري سيعرقل أي مسعى حكومي ولن يكون لمصلحتهما لأنه سيضع رئيس حركة أمل حكماً في صف رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ضدهما. فضلاً عن أن هذا «التكتيك» بالهجوم لتليين الطرف الآخر لا يسري على بري أو جنبلاط أو أي حزب، بل يجعلهم أكثر شراسة وتعنتاً في مواقفهم. وبالتالي ربط ملفات الفساد بأي طموح حكومي هو «من نسج الخيال». لكنه في الوقت عينه محاولة من جنبلاط - الذي هرع إلى عين التينة فور ادعاء هيئة القضايا على موظفين في وزارة المهجرين بجرم الإثراء غير المشروع - لتحويل الفساد إلى عراك بالسياسة، طالباً النجدة من بري. من هنا يأتي تصريح النائب الاشتراكي بلال عبدالله بأن ما يقوم به التيار «سلسلة ملفات قضائية يجهزها باسيل ليحركها تباعاً ضد جنبلاط وبري والحريري». فجنبلاط، برأي التيار، يصرّ «عمداً على إقحام الأخيرين في المشكلة بشكل شخصي حتى يضمن خروجاً آمناً ويتنصل من الموبقات المرتكبة في مغارة وزارة المهجرين».
أما الواقع، على ما يشير العونيون، فيقول إن تلك الملفات لا يمكن أن تُعد فجأة في ليلة وضحاها بل تحتاج إلى تحضير مسبق وجمع لمعطيات على فترات متباعدة حتى يصبح الملف جاهزاً. وذلك تفصيل آخر «ينسف الشائعات التي يستخدمها البعض للهروب من تهم الفساد المثبتة ضدهم و«تقريش» سرقتهم للمال العام في البازار السياسي». فقد سبق للتيار أن أثار ملفين اثنين في هذا السياق، الأول ضد رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلوم والثاني حول موظفين وشركات مرتبطين بقضية الفيول المغشوش. فغداة 17 تشرين الأول 2019، أنشأ تكتل لبنان القوي لجنة مؤلفة من عدد من النواب وعضو المكتب السياسي في التيار وديع عقل مهامها إعداد ملفات فساد لرفعها إلى القضاء، بالتوازي مع الانتفاضة الشعبية، للإسراع بإصدار الأحكام القضائية تحت ضغط الشارع. ثمّة قضايا تمكّنت اللجنة خلال العام الأول من عملها من توثيقها بالكامل، وثمة مسائل كملف رئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط محمد الحوت تفتقد إلى الحجج القضائية القوية التي تسمح للتيار بالهجوم. وهناك ادّعاءات فارغة أدت إلى عدم إثارة الرئيس عون السؤال نفسه عن الملفات العشرة التي أعلن القصر الجمهوري في بيان عقب انتفاضة تشرين متابعتها بنفسه ومنها التحقيق مع رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي. من هنا، وبعد اجتماع عون مع لجنة الكتل ورئيس التيار، تقرّر العمل بشكل عملي وجدي ودقيق على تجهيز ملفات متكاملة لا لبس فيها. المسألة الأهم هنا أن العقوبات الأميركية على باسيل هي الفاصل هنا في اتخاذ قرار المضي قدماً في معركة الفساد وفتح الملفات كلها قضائياً، فيما كان قبيل ذلك يتأنّى في عرضها. ورغم أن لا علاقة مباشرة بين المسألتين، فإن مراكمة الخيبات لدى ممثلي التيار وجمهوره، جعلت من غير الممكن انتظار الحلول الخارجية. فالبيت العوني بدا في حالة تداعي، وبات معها يحتاج إلى صدمة كبيرة وايجابية لتدعيم أعمدته. على أن المعركة الوحيدة التي حسمها رئيس التيار فعلياً بعد فرض العقوبات عليه، «ولم تعد قابلة للمقايضة أو المسايرة»، فهي معركته مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا