أحياناً لا تكون القوانين منصفة ليس لقصور فيها، وإنما بسبب الإصرار على عدم «أنسنتها». ففي الغالب، لا تحتاج بعض الحقوق إلى نصوص صارمة تطبّق بحرفيتها، وإنما إلى بعض «التفلت» غير البعيد عن روحيتها. وهذا ما يمكن أن يطلق عليه هامش الاجتهاد الذي ينحو صوبه القاضي عندما تخذل القوانين حقوق الناس. هكذا، يصبح الأمر في يد من يحكم باسم القانون، فإما أن يبقى ملتزماً، وعندها «يا بيصيب يا بيخيب»، أو أن يجتهد متّبعاً ما تمليه القوانين في روحيّتها. وانطلاقاً من الباب الأخير، كان ما فعله القاضي أحمد مزهر، رئيس دائرة التنفيذ في النبطية، في الاعتراض المقدم أمامه، والمتعلق بقيمة نفقة بالدولار الأميركي متوجبة لأم مطلقة وابنتها.في حيثيات القضية، وقبل الدخول في تفاصيل الحكم ــــ القابل للاستئناف ــــ الذي أصدره مزهر، يشير الاعتراض المقدم من قبل «السيد ط.»، طليق «السيدة و.»، إلى أنه لم يعد قادراً على دفع نفقة ابنته التي تقيم مع والدتها بالدولار الأميركي (200 دولار)، كما هو مقرر في الحكم الصادر عن المحكمة الجعفرية، «بسبب فقدان الدولار الأميركي من السوق وسعره في السوق السوداء». وجاء هذا الاعتراض بعدما رفضت طليقته، في تموز الماضي، تسلّم الحوالة المرسلة منه بالليرة اللبنانية وفق سعر الصرف الرسمي، بسبب انخفاض قيمتها الشرائية. ولما بقيت الطليقة مصرّة على رفضها، حاول اللجوء إلى «الشرع» للضغط عليها، فتقدّم أمام المحكمة الجعفرية في النبطية بدعوى «تخفيض نفقة (...) بسبب أزمة الدولار». إلا أن القرار يومها قضى بردّ الدعوى «لأن النفقة حكم بها بموجب اتفاق بين الطرفين (...) وهو قرار مبرم وملزم لهما لا يقبل أي تعديل إلا باتفاق جديد».
سلك الرجل طريقاً للتفاوض مع طليقته، عبر الذهاب باتجاه «رفع النفقة إلى 500 ألف ليرة بدلاً من 300 ألف». وعندما رفضت، توجه إلى القضاء، متسلحاً بجملة من القوانين لرفع ما يعتبره غبناً، من النقد والتسليف (المواد 7 و192) والعقوبات (المادة (767) إلى الموجبات والعقود (المادة 301)، والتي تنتهي جميعها إلى الخلاصة الآتية: لا يمكن رفض الإيفاء بالعملة الوطنية ولا يمكن فرض الدفع بالعملة الأجنبية. من هذا المنطلق، رأى «السيد ط.» أن «التسديد بالعملة الوطنية هو حق له».
لا يعفي اللجوء إلى القوانين في نسيان أن دفع النفقة بعملة وطنية لم يعد يفي بغرض العيش


في المقابل، كان للقاضي مزهر رأي آخر، من دون الخروج من عباءة القانون. في الشكل، قبل القاضي الاعتراض. أما في المضمون، فقد عمل الأخير ما يمليه عليه «ضميره المهني». صحيح أن المواد القانونية التي استعرضها المستدعي لا تقبل الشك، إلا أن الواقع الراهن يفترض النظر إلى المسألة من زاوية أخرى، انطلاقاً من أن المسألة القانونية المثارة لا تكمن في مدى جواز الإيفاء بالعملة الوطنية لدينٍ بالعملة الأجنبية، وهي من المسلّمات التي لا جدال حولها، وإنما «الإشكال يحضر عندما يقوم المدين بإيداع مبلغ بالعملة الوطنية يساوي قيمة العملة الأجنبية التي أصابتها تقلبات سوقية شديدة في سعرها». وهو ما ألحقه مزهر بسؤالٍ كان المنطلق إلى الجواب الذي بموجبه أنصف الأم وابنتها، فسأل: «هل يعتبر الدفع الذي قام به المدين مبرئاً لذمته تجاه دائنه أم أنه غير كاف ويجب عليه أن يؤمن كمية النقود المساوية للعملة الأجنبية بحسب سعرها الواقعي»، ثم أجاب بـ«لا». لا يعفيه اللجوء إلى القوانين في نسيان أمرٍ واقع، كما لا يعفيه الدفع بعملة وطنية لم تعد تفي بغرض العيش ممّا يترتّب عليه من نتائج قانونية تصل إلى حدّ العقوبة بالسجن.
وبما أنه لم يعد ثمة مجال لـ«المساكنة» مع الليرة، انطلاقاً من أن الأوراق النقدية «لا قيمة لها لذاتها وإنما تقع قوّتها في قيمتها الشرائية»، بات الإيفاء بهذه الطريقة غير كافٍ بسبب «عدم قدرة المدين على إشباع حق الدائن في استيفاء دينه»، عملاً بنص المادتين 249 و299 من قانون الموجبات والعقود على أن «القوّة الشرائية هي الصفة الجوهرية للنقود لا وريقاتها»!
على هذا الأساس، وفي حال اختيار المدين إيفاء دينه بالعملة الوطنية، لعدم توفّر الدولار الأميركي، فعندها «عليه أن يدفع الدين على أساس سعر صرف العملة الأجنبية في السوق الحرّة، بتاريخ الدفع الفعلي وليس بتاريخ الاستحقاق ولا بتاريخ طلب التنفيذ». أما عكس ذلك، فكفيل بأن «يفرغ السند التنفيذي من مضمونه ويجرّده من النفع المتوخى منه».
لم يفعل مزهر المستحيل، ولا أقدم على سابقة، وإنما فعل ما تمليه عليه إنسانيته ضمن القانون. اجتهد ضمن حدود، وإن كان اجتهاده يخصّ هذا الملف بالذات، من دون تعميم. اجتهد لأنها قضية حق، والأهم من ذلك أنه لم يخالف. يبقى أن يسلك الباقون طريقه، والحكم في ما بعد على ما سيأتي نتيجة الاستئناف.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا