يصف أحد السياسيين المخضرمين يوم تكليف الرئيس سعد الحريري بأنه من أخطر الايام التي مرّ بها لبنان. الخطورة لا تكمن في تكليف الرجل كشخص بحد ذاته، ولا في موضوع الميثاقية كشعار، بل بالانقسام الحاد الذي أحاط بتكليفه، واعاد التذكير بمرحلة الوجود السوري. من سمّى الحريري هم فعلياً من كانوا حلفاء سوريا في لبنان: تيار المستقبل وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المردة والحزب السوري القومي الاجتماعي وشخصيات فردية كانت معروفة بعلاقتها مع دمشق، والى حد ما كتلة الطاشناق. أليس هو المشهد نفسه الذي وقفت فيه النائبة بهية الحريري تقول فيه عام 2005، «لن نقول وداعاً سوريا، بل الى اللقاء»؟ أوَليس هو تطبيقاً لما دار في قريطم في العام نفسه بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري من ضغط مارسه مقرّبون من الراحل على خليفته لعدم الالتزام السياسي مع الاحزاب المسيحية، والاكتفاء بصياغة اتفاقات ثابتة مع الثنائية الشيعية والاشتراكي؟على المقلب الآخر من التكليف، ولأسباب مختلفة، لم تسمّ الحريري قوى سياسية مسيحية، لم تعد قياداتها في السجن أو في المنفى، خلافاً لما كانت عليه الحال أيام الوجود السوري. أما حزب الله فقد قام بخطوة استيعابية، امتصّ فيها خطورة ما يجري، فلم يسمّه أيضاً. صحيح أن هناك تفاهمات بينهما على طريق التكليف، لكن الحزب ورغم مآخذه على أداء التيار الوطني الحر في محطات مفصلية أخيرة، حريص على عدم ترك الامور تفلت من عقالها، وهو لم يتخذ قراراً يكرس الانفصام الحاد مع حليفه «المسيحي» وبين المكونات السياسية، تاركاً بذلك المجال مفتوحاً لاستيعاب مشاورات التأليف وحصر الأضرار التي حصلت حتى الآن.
الأكيد أن ثمة مسؤوليات متفاوتة عما حصل منذ عام 2005 الى اليوم، ومنذ انتخاب الرئيس ميشال عون؛ فالقوى المسيحية كانت تتذرع في مرحلة التسعينيات بالوجود السوري والضغوط عليها مقابل سيطرة القوى الاخرى على الحكم. لكنها اليوم عادت فاعلة من دون الخضوع لتأثيرات سوريا وحلفائها، والتيار الوطني تحديداً أصبح في قلب السلطة منذ أربعة أعوام. فأي أخطاء ارتكبتها على طريق محاصرة نفسها بنفسها، وجعلت هذا الاصطفاف المواجه لها يعود الى حدته. قد يكون الخطأ الأكبر الذي ارتكبه التيار، ألا يكون التيار حزب العهد. بمعنى التمييز المطلق بينهما، فتكون رئاسة الجمهورية مستقلة تماماً كحصة وكموقع، الأمر الذي لا يعرّضها للاهتزاز كما هو حاصل اليوم. وهذا الأمر إذا أخذ به اليوم، يمكن أن يكون مناسبة للمّ الشارع المسيحي الذي بيّنت تظاهرات 17 تشرين، أن ثلثه على الاقل لم يعد في أيدي هذه الأحزاب، فيعاد استيعاب الشريحة التي نالها قسط من الاستهداف الداخلي والانهيار المالي والاقتصادي والإبعاد السياسي، فيعاد فصل رئاسة الجمهورية عن الأحزاب مهما علا شأنها، فلا تصبح مكسر عصا بسبب تماهيها مع الحزب والعكس صحيح. لكن بقدر ما قد تكون أخطاء القوتين المسيحيتين الاكثر تمثيلاً، أي التيار والقوات، مؤثرة في الأسلوب والشكل عما وصلت اليه، يمكن الحديث استراتيجياً، عن تقاطع بين التحول في استعادة الحريري الى السراي الحكومي من جانب فريق واحد، وبين الإعداد مجدداً لقانون الانتخاب.
ففي خضم أزمة مالية واقتصادية وتداعيات انفجار المرفأ، لم يجد رئيس مجلس النواب نبيه بري لحظة مناسبة أكثر للدعوة الى مناقشة قانون جديد للانتخاب! وتزامنت دعوته مع إطلالة الحريري وجنبلاط التلفزيونيتين وكلامهما المتجانس عن قانون جديد للانتخاب. هذا التناغم ليس مفاجئاً (مع تسجيل ملاحظة ابتعاد حزب الله مرة جديدة عن مقاربته) لأن الفريق نفسه الذي سمّى الحريري هو الذي بدأ غداة نتائج الانتخاب عام 2018 يتحدث عن ضرورة الإعداد لقانون انتخاب جديد. فهذه النتائج كرست الافتراق بين الحريري والقوات، وامتعاض بري وجنبلاط من التيار والقوات معاً، لأن الحصص المسيحية الصافية في المجلس النيابي ارتفع عددها وتضاعف، على حساب الودائع التي كانت تحرص الكتل الأخرى على التمسك بها، وفق قانون سعت اليه هذه الكتل بنفسها. وتأثيرات هذه النتائج كما أظهرت التجربة لاحقاً، بإعطاء القوى المسيحية دوراً أكبر في مفاصل الدولة، تارة بالكباش وأخرى بالحرد، مع هامش استقلالي كبير لهذه القوى، وجنوح أكثر نحو التشدد أو حتى «التعنّت» في مفاصل حساسة، أظهرت الحاجة الى مراجعة قانون الانتخاب مجدداً. والتسويات الثنائية والتحالفات الظرفية بين الاحزاب المسيحية وحلفائها، لم تتدهور الا بعد الانتخابات، وبتأثير مباشر منها، كما حصل مثلاً بين الحريري والتيار خلال تأليف حكومة الحريري الثانية في عهد عون. وبمعزل عن أداء القوى المسيحية التكتي والظرفي الذي أتعب الحلفاء والخصوم، وتبدل نهج التيار والقوات تحديداً وتغير أسلوب قيادتهما التي استعادت حضورها ووهجها بعد مرحلة انكفاء، فإن مستوى تدهور علاقة الكتل الاخرى بها، مبني في شكل أساسي على ما جرى عام 2018. وهذا ما لم يعد يرضي التكتلات الاخرى التي سلكت سبيل تغيير قانون الانتخاب، بعدما تمكنت من لم شملها مجدداً. التحدي يكمن في موقف حزب الله أولاً من أي قانون جديد، وفي أسلوب تعاطي التيار والقوات مع تأليف الحكومة ومع قانون الانتخاب معاً، علماً بأن كلاماً يقال عن حدة تصاعدية يظهر أول تباشيرها بعدما باتا يلمسان امتعاضاً شعبياً متزايداً من محاولات عزلهما، يحاولان الإفادة منه في الضغط ورفع الصوت. مع أن السؤال يبقى هل استفادا من تجربة السنوات الفائتة أم يكرران الأخطاء نفسها كما جرت العادة.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا