في ظل الثورة الصناعية الرابعة، أضحت التكنولوجيا عاملاً مساعداً لتطوير المسيرة التعليمية، لا بديل عنها. فالتعليم من بعد، أو المدمج، فرض نفسه بقوة غياب البديل، وذلك لضمان استمراريّة المنظومة التعليمية في ظل أزمة كورونا التي أرخت بثقلها على التعليم المدرسي والجامعي. وقد شهدنا أنّ استجابة المؤسسات التعليمية لفكرة الانتقال من التعليم التقليدي إلى الإلكتروني، بأشكاله المختلفة، كانت متعثّرة ومربكة بدرجاتٍ ومستوياتٍ متعدّدة. ولضمان حصول هذا الانتقال ونجاحه، لا بدّ من إعادة تشكيل المنظومة التعليميّة لتتلاءم مع الواقع المستجد، من خلال تعزيز المكوّنات الثلاثة التي تُشكّل البيئة الحاضنة لأيّ نظامٍ تعليمي يعتمدُ في جزءٍ منه على التكنولوجيا. وهذه المكوّنات هي التشريعي والتربوي والتقني. ونطرح هنا ما يشبه خارطة طريق وطنيّة تستندُ في مضمونها إلى بعض التوصيات التي صدرت عن المنتدى الوطني الافتراضي حول نظام التعليم الإلكتروني وتقنيات التعليم الحديث، والذي نظّمته الجامعة اللبنانيّة الشهر الفائت، وعلى بعض طروحات لها الاختصاص، بهدف العبور الآمن بالقطاع التعليمي من ضفّة الإرباك والتعثّر إلى ضفّة الإنتاجيّة والتطوّر.تشريعيّاً، تخضع شروط ممارسة التعليم من بُعد في كلّ دول العالم لأحكام قانون التعليم. أمّا في لبنان، فقد درست لجنة التربية النيابيّة اقتراحَي قانون، الأول قدّمه النائب إدغار طرابلسي عام 2019، ويهدف إلى تشريع التعليم من بعد كنظام دائم من خلال تعديل مادة واحدة من قانون التعليم العالي، والثاني أعدّته النائبة بهية الحريري استثنائياً لتنظيم «التدريس من بعد» في حالات الضرورة فقط، والذي لم يُقرّ في الجلسة التشريعيّة الأخيرة وأُعيد إلى اللجان لمزيد من الدرس. من هنا تظهر الحاجة إلى وجوب استصدار القوانين اللازمة لتلبية متطلبات التعليم من بُعد، ولا سيما تعديل القانون 285 الذي يُنظّم التعليم العالي، وإنشاء مؤسسة وطنيّة متخصّصة في التعليم من بُعد تُشكّل مرجعية علميّة تربويّة للمؤسسات التعليميّة التي تُريد استخدام هذا النموذج من التعليم، على غرار المؤسسة الوطنية الفرنسيّة للتعليم من بُعد (أُنشئت عام 1939وتغيّر اسمها ووظيفتها مرات عدة وفق الحقبات والتقنيات المستخدمة في وقتها)، أضف إلى ذلك ضرورة إنشاء هيئة اعتماديّة للتعليم العالي والإلكتروني تُعنى بوضع معايير البرامج الإلكترونيّة، مع أهميّة أن تتضمّن التشريعات لائحة بأنواع الشهادات في مسارات محدّدة تتلاءم مع هذا الأسلوب الجديد للتعليم في لبنان، وتحديد المستلزمات التقنية والبشرية الواجب توافرها لدى المؤسسات التعليمية والطلاب قبل الشروع باستخدام هذا النموذج.
تربوياً، هناك صورة ثلاثيّة الأبعاد يجب النظر إليها والأخذ بها، على مستوى دور المؤسسات التعليميّة ووظيفتها، والتأهيل والتدريب للطاقم التعليمي، وصياغة المحتوى.
على صعيد الدور، لا بدّ من أن يطرأ تغيير أو تطوير على وظيفة المؤسسة التعليمية والكادر الأكاديمي، فلم يعُد يكفي أن يُختصر الدور بنقل المعرفة والكفايات في الاختصاص الدقيق بل تعدّاها إلى أهميّة إنتاج متخرّجين قادرين على التعامل مع مشكلات لم نعرفها بعد ووظائف لم توجد بعد واستخدام تقنيّات لم تُبتكر أيضاً. ناهيك بأهمية إعداد وتأهيل الكادر الأكاديمي من أجل الاستخدام الفعّال والمنتج للتقنيّات التكنولوجيّة، وتشمل هذه التقنيّات نُظُم تشغيل الحاسوب، استخدام الوسائط المتعددة، تحضير العروض التفاعليّة وتصميم ونشر المواد التعليمية الإلكترونيّة، إضافة إلى إخضاع المُدرّسين لدورات تدريبيّة خاصّة بعمليّة التقييم من بُعد من خلال طرح أسئلة النقد والتحليل والبحث. في البُعد الأخير، أي صياغة المحتوى، هُناك حاجة إلى إعداد مناهج أكاديميّة تُواكِب عمليّة التعليم من بُعد، وتدفع بالاتجاه نحو تدريب الطالب على اكتساب مهارات التعلم الذاتي، التحوّل من التعليم إلى التعلّم، ومن تلقي المعلومات إلى معالجتها وتحليلها.
تقنياً، تُشكل جهوزية البنية التحتيّة العمود الفقري لتأمين عدالة التعليم وديمومة المنظومة التعليميّة المُستخدمة للتكنولوجيا. ويمثل توفر الإنترنت العنصر الأساس في الجهوزيّة. ونظراً إلى الوضع الاقتصادي الضاغط، هناك ضرورة لتغيير مبادئ التسعير والتعرفة التي تعتمدها وزارة الاتصالات للباقات المعروضة، وذلك لتتمكن مختلف شرائح المجتمع، ولا سيما الفقيرة منها، من الاشتراك في الباقات ذات الجودة العالية (أعلى من ٢ أو ٤ ميغابيت)، ما يساعد في تحسين عملية الاتصال والتواصل في التعليم من بعد. كما أنّ العمل على إصدار مراسيم عن الوزارة لإنشاء باقات للإنترنت خاصة بالتعليم وبأسعار مخفّضة سيشكل قوة دفع لزيادة عدد المشتركين، وبالتالي تأمين الإنترنت للجميع. كذلك إنشاء منصّات تعليميّة وطنيّة موجودة في لبنان لتخزين الفيديوهات والمحتوى التعليمي والتدريب سيخفف من التكلفة العاليّة للإنترنت، كمنصة مسارات للتدريب ومنصة المركز التربوي للبحوث والإنماء. وأخيراً في الشق التقني لا بد من الإشارة إلى ما ورد في المنتدى من توصيات بشأن أهميّة أن تتم عملية التعليم من بعد عبر الشبكة الأرضيّة للإفساح أمام الشريحة الأكبر من المواطنين للاستفادة من الحسومات التي قدّمتها وزارة الاتصالات للمشتركين في هيئة أوجيرو، إضافة إلى استفادة المواطنين من الحسومات التي قدّمتها الوزارة إلى مقدمي خدمات الإنترنت والتي وصلت إلى ما بين ٣٠% و٤٠%.
لنعبر بأمان لا يجب أن تُقاس المواضيع التربوية وفق ميزان الربح والخسارة اقتصادياً، ولا أن تكون مادة لتسجيل الانتصارات في المعارك سياسياً، أو العمل على تجزئتها مناطقياً وطائفياً، بل يجب النظر إليها في بعدها الوطني على أنّها استثمار في جيل سيصنع المستقبل، تحدياته لها طبيعة مختلفة، وهذا الاستثمار ضروري لصناعة جيل قادر على التفاعل لا مجرد متلقٍّ للمعرفة.

* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا