«لم يبقَ لدينا قيصر، فنهرٌ من الدماء يفصل القيصر عن الشعب. عاش النضال في سبيل الحرية» – غيورغي غابون

«يصنع الناس تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم، إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يواجَهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم من الماضي» - كارل ماركس


إن كان من صفة مؤكدة لذلك الخميس من تشرين الأول 2019، فهي استثنائيته من بين أيام الجمهورية الثانية، والأقرب منها لأن يكتب لهذا البلد «فاتحة الممكنات». كان يوم تجلي قانون نيوتن الثالث؛ ردّ الفعل الناتج عن فعل التدمير الممنهج والشامل للمجتمع طوال ثلاثين عاماً، بل لعقود طويلة سابقة. انهار النموذج الذي كان يموّل الدولة بما تعنيه في لبنان من شبكة زبائنية واسعة من التوظيفات والخدمات، كانت بمثابة إعادة توزيع جزئي للثروة يستفيد منه مئات آلاف اللبنانيين. ولم يكن النموذج قد أرسى الحد الأدنى من البنية التحتية والعدالة الاجتماعية التي يمكن الاتكاء عليها ولو قليلاً، بل ظهرت الهشاشة العالية إزاء الأزمة والكوارث. سرعان ما تلقّف اللبنانيون هذا الانهيار الشامل بفعل الحساسية العالية لظروف معيشتهم إزاء الأزمة.سبقت 17 تشرين تحركات تحذر من الانهيار. واندلعت الانتفاضة وسط تشخيص عدة قوى مشاركة فيها للأزمة وعمقها وللنظام ومرتكزاته على قدر عالٍ من الدقة. وهذا أسهم في صياغة خطاب شعبيّ لدى جناح في الانتفاضة مقابل جناح ينادي حصراً بمحاربة الفساد أو إجراء انتخابات نيابية مبكرة. ومفاعيل هذا الخطاب الثوري تمظهرت بأساليب وأماكن تحركات كانت منها «ليلة المصارف»، حين هوجمت مصارف شارع الحمرا بعنف واعٍ ودقيق لم يتعرض للمحال التجارية وأملاك الناس. لكن اللازم اليوم هو نقد التجربة واستخلاص العبر أكثر من تعداد إيجابيات 17 تشرين ومنجزاته.



كعبا أخيل المشروع الثوريّ والنظام القائم
أولاً: سريعاً أعلنت قوى في الانتفاضة عن مبادراتها الأولية، وقد تقاطعت حول نقاط عامة ثلاث: استقالة حكومة الوفاق الوطني، الإصلاح الاقتصادي واستعادة الأموال المنهوبة، وحكومة من خارج المنظومة تتمتع بصلاحيات استثنائية. لكن سريعاً أيضاً اصطدمت الانتفاضة بأول تناقضاتها. استقالت حكومة الحريري. عظيم! من سيُؤلف الآن الحكومة المنشودة ويعطيها الصلاحيات الاستثنائية؟ المجلس النيابي المكوّن من الأحزاب الطائفية نفسها!؟ هكذا خلق هذا البارادوكس الضياع في اليوم الثاني عشر للانتفاضة. إذن، إن كانت 17 تشرين وقتئذ تطمح فعلاً إلى إحداث تغيير كهذا في النظام السياسي، فقد كان عليها إما أن تستغل الزخم الشعبي عقب استقالة حكومة الوفاق الوطني وتحديد هدفها التالي الواضح بإسقاط المجلس النيابي ورئيس الجمهورية، وإما كان عليها أن تدوس الدستور وتطرح آليات جديدة تحل التناقض الدستوري المذكور، كالاستفتاء العام المباشر حول قرار أو حكومة مؤقتة جديدة.
ثانياً: لكن ما سبق ليس المشكلة الأساس، بل نتيجة لمشكلة أوسع هي «الفيل في غرفة 17 تشرين» وكعب أخيلها. بعد مرور عام على اندلاع الانتفاضة، أين الجبهة السياسية التي ستخوض صراعاً صريحاً مفتوحاً مع النظام القائم؟ لم تكن الانتفاضة بحاجة إلى قيادة تفاوض باسمها كما طلب أركان النظام في الأيام الأولى. كان المطلب واضحاً. لكن استقالة حكومة الوفاق كانت مفصلاً. بعد تلك اللحظة باتت هناك ضرورة ثورية لأن تتشكل جبهة سياسية تمثل الجناح الشعبي في انتفاضة 17 تشرين، تسعى لتحقيق مصلحة الطبقات الشعبية وتحمل مشروعها، تحدد الهدف تلو الهدف، توجّه التحركات، ترسّم الحدود مع النظام وقوى غير شعبية في الانتفاضة، تقرر التفاوض من عدمه، قطع الطرقات من عدمه، سبل المواجهة...الخ.
ثالثاً: والنقطة الثانية بدورها تنبثق من نقطة أوسع. يتحدث مهدي عامل عن ممارسة الطبقة المسيطرة لحركة انتباذية في صراعها الطبقي، أي نبذ التناقضات الاجتماعية وإبعادها عن ميدان السياسة. طوال ثلاثين عاماً كانت الممارسة السياسية الشعبية والديموقراطية، أي تلك التي تتمحور حول مصالح الطبقة العاملة، ضعيفة جداً. وأسباب ذلك تبدأ من أنه على عكس الشائع، الحرب الأهلية انتهت فعلاً بانتصار غالب هو المشروع التحاصصي الريعي والرجعي للأحزاب الطائفية، وهزيمة مشروع بناء دولة ديموقراطية تقدمية. ومنذ الطائف بدأت دولة الطائفيين المنتصرين هجومها بضرب الحركة النقابية، بهدم دعائم المجتمع وبنيته التحتية لصالح ازدهار رأس المال. وتصارعت أجنحتها في أجواء الاستقطاب الإقليمي والدولي. كل ذلك، بمعزل عن تقييمه، لم يكبح الممارسة السياسية الشعبية، بل كرّس الأيديولوجية النيوليبرالية ذات الخصائص اللبنانية. حتى بتنا نرى طوال هذه السنين (ربما لحد 17 تشرين) فلاحاً في قرية نائية أو عاملاً فقيراً في المدينة يدافعان عن «القطاع المصرفي الذي يسند البلد»، ويحلفان برأس رياض سلامة، ويتمحور كل النقاش حول ثنائيات إشكالية بين أجنحة الأحزاب الطائفية. ولهذا ينبذ الكثيرون، عن خطأ، فكرة الحزب السياسي، ولهذا كان صعباً في الانتفاضة التصور الماكروي للأمور؛ أي ربط الداخل بالخارج، وتشكيل قيادة سياسية، والتنظيم الأفضل، والاستفادة من التناقضات بين أجنحة النظام السياسي... الخ.
رابعاً: لقد سحقت الطبقة المسيطرة والأحزاب الطائفية المجتمع على مرّ هذه السنوات، ليس بالفقر والقتل وترهل البنية التحتية وحسب، بل حتى آيديولوجياً وذهنياً. ومن إيجابيات 17 تشرين إدخال خطاب مصلحة الطبقة العاملة إلى النقاش. لكن المهمة الآن هي إدخال هذه الممارسة إلى المشهد السياسي في لبنان وليس النقاش وحسب. التحدي الأساسي أمام 17 تشرين هو خلق الفاعل السياسي، أي الجبهة السياسية التي تحمل المشروع الثوري المبني على مرتكزات ثلاثة؛ العدالة الاجتماعية، الديموقراطية الشعبية، وتطوير المجتمع، أي اقتصاده وبنيته التحتية والتعليم...الخ.
خامساً: وهذا المشروع الثوري لا يمكن أن يكون محض ورقة سياسية مكتوبة أو محض إعلان تحالف سياسي بين القوى الشعبية للانتفاضة. إن تحقق هذا المشروع يستلزم وجود القاعدة الشعبية التي تحمله وتكافح لتحقيقه. وفي مرحلة السقوط الحر الحالية هذه، يجب على القوى الشعبية في الانتفاضة أن تتجه لتنظيم المزارعين في تعاونيات زراعية، أن تخلق قنوات أكثر مباشرة بين الإنتاج الزراعي والاستهلاك في المدينة، أن تنظم الحرفيين وأصحاب المهن، أن تتجه إلى الصناعيين لتنظيمهم في سبيل الدفاع عن مصالحهم التي تُسحق الآن وبغية المساعدة في كبح الانهيار. يجب على المشروع الثوري تنظيم التكافل الاجتماعي الشعبي المبني على أسس علمية لا على النحو التوزيعي والإعانوي للأحزاب الطائفية.
وهناك كعبٌ آخر إنما لأخيل النظام القائم في لبنان. هذا النظام المتنوعة قواه، بحسب مرجعياتها ومقدراتها وهواجسها وحساباتها وإمكانياتها، إلا أنها جميعاً لا تزال تقف عاجزة إزاء الانهيار الذي وقع والخسائر التي تحققت. وهي ستبقى عاجزة عن حل الأزمة وبناء دولة لأن عجزها لا يتأتى عن جهل بل عن حيثيات مادية هي بنيتها وارتباطاتها والتشكيلة الاجتماعية التي تمثل. ببساطة واختصار، إن المعالجة الحقيقية للأزمة في لبنان بما هي من تغيير بنية الاقتصاد اللبناني تُلحق ضرراً بالمصالح التي يمثلها معظم الأحزاب الطائفية اليوم. والأمثلة على ذلك كثيرة، من الشطب الجزئي للدين والكابيتال كونترول وقص للودائع الكبيرة، وهي إجراءات يريدها حتى صندوق النقد الدولي فيما تمنع هذه الأحزاب إقرارها. وهكذا، فإلى جانب الكربجة السياسية في النظام اليوم، فإنك يمكن أن تُحرج النظام بكل ميليشياته ومقدراته ونتائج انتخاباته وسفاراته بسؤاله: أجيبوا، كيف ستسدون الخسائر؟ كيف ستكبحون الانهيار؟ كيف ستحمون الناس؟ لقد كانت حكومة حسان دياب خير برهان على استحالة إصلاح النظام القائم اليوم حين تلقت خطته الصفعة تلو الصفعة والنعي تلو النعي. ربما لم تفقد قوى النظام الطائفي ما يُسمى «مشروعيتها الشعبية»، أي الأصوات الانتخابية، لكن الذي لا لبس فيه أن النظام فقد مشروعيته الطبقية حين لم يعد قادراً على حماية الناس وتأمين الحد الأدنى من معيشتهم، والأهم أن النظام فقد مشروعيته التاريخية؛ إنه الصخرة التي انجرفت إلى الطريق، يجب تصفيته، بمعزل عن الكيفية والمدى الزمني.

خاتمة
في 17 تشرين 2020، لا تتعلق المسألة بالتفاؤل أو التشاؤم. تقنياً، الأزمة ليست مستحيلة الحل. هناك مهام إن أُنجزت سيكون بوسعنا تفادي الانهيار الآبوكاليبسي الكارثي الذي يكثر الحديث عنه. هذه المهمة تتمثل في فرض تعديل على ميزان القوى في لبنان لضمان تنفيذ عدة أمور، أهمها (إضافة إلى ما سبق من شطب الدين، والكابيتال كونترول، وقص الودائع الكبيرة...إلخ) تفكيك الاحتكارات التي تنهب ثروة المجتمع، ودعم القطاعات الإنتاجية والتصديرية في لبنان لحل الأزمة. لا يمكن الهروب من هذه المهمة. ليس هناك من حنفية سيُعاد فتحها. وذلك يمكن أن يُموّل من الضرائب على المستدامة والاستثنائية على العقارات الخالية وعلى الثروات الكبيرة في البلد. هذا من شأنه أن يدوزن ميزان المدفوعات مجدداً في ظل الانخفاض الجذري في فاتورة الاستيراد والتحويلات إلى الخارج، وأن يفتتح مسيرة التعافي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا