بقدر ما كان موعد 17 تشرين مفاجئاً للبنانيين أنفسهم، كان موقف البطريركية المارونية المؤيد لها مفاجئاً أيضاً، لأنه كرس تحولات جذرية في الخط الذي التزمه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي منذ ان تولى السدة البطريركية. لم يواجه الراعي منذ انتخابه بطريركاً تحدياً بالمعنى الاجتماعي والسياسي كالذي واجهه في 17 تشرين الاول 2019. كل خطواته السابقة «غُفرت" له في بعض الاوساط السياسية، بعدما دعم التظاهرات. نتيجة هذا التحول، الذي تصاعد تدريجاً وانتهى بالمطالبة بحياد لبنان، تمكن الراعي بحسب أحد الضالعين في شؤون بكركي، من أن يبدل النظرة اليه خلال سنة، ويحصد تأييد أوسع شريحة من المسيحيين اعتبروا أن عظاته ومواقفه أصبحت تعبر فعلياً عن هواجسهم المزمنة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أكثر مما تعبّر عنه مواقف قادتهم السياسيين. وفي الوقت نفسه، بدا حاسماً، للمرة الاولى، في خطاب سياسي لم يساير فيه حزب الله، ولم يتوقف عند ارتداد توتر العلاقة بينهما، ولا وافق العهد بالمطلق رغم رسائل بينهما، واستقطب الى جانبه القوات اللبنانية والكتائب، من دون أن يخاصمه التيار الوطني الحر وتيار المردة، وخلق حوله حركة سياسية جرى تفعيلها بالتواصل مع قوى كالتقدمي الاشتراكي والمستقبل.يشكل مجلس المطارنة الموارنة مزيجاً من الافكار والانتماءات، لكن يوجد متحدث وحيد باسمه هو البطريرك، وان كانت تعصف الاتجاهات السياسية فيه، وقد بدا خط المقربين من العهد و8 آذار متفوقاً احياناً، لذا كان التردد واضحاً في اللحظات الاولى لـ17 تشرين لفهم أبعادها. فهل هي ضد العهد وحزب الله أم الحكومة فحسب، أم الطبقة السياسية كلها؟ هل هي نتيجة احتقان شعبي اقتصادي، أم تدخلات خارجية؟ المفاجأة حصلت مع عدم انتظار رجال اكليروس قرار بكركي، فنزلوا الى الشارع في وسط بيروت وخلال قطع الطرق في «المناطق المسيحية». كان الراعي في أفريقيا، ما أتاح له مزيداً من الوقت، فتسارعت الاتصالات مع سياسيين وجامعيين ومسؤولين حاليين وسابقين لاتخاذ خطوات مدروسة. جرت نقاشات بعد عودته في بكركي حول الشق الاجتماعي والمطالب المتعلقة بمسؤولية السياسيين عن الفساد والانهيار. لم يلتزم الراعي الحياد بعدما سمع آراء عن ضرورة تظهير الموقف المنبثق من النصوص الانجيلية المتعاطفة مع المظلوم والفقير. لكنه سمع أيضاً مطالب بعدم المس بالعهد، إذ كانت الخشية من أن يكون الهدف رئيس الجمهورية لإسقاطه. في العظة الاولى للراعي بعد عودته في 27 تشرين الاول، دعا السلطة الى التعامل من دون فوقية مع المتظاهرين، ووصف ما يجري بأنه «ثورة إيجابية إصلاحية، انتفاضة إصلاحية»، داعياً إلى «عدم الانحراف الى اهداف ايدولوجية هدامة أو نزاع حزبي»، مع تأييده عدم قطع الطرق. الاكيد ان الموقف فاجأ اوساطاً سياسية لم تكن تنتظر منه ان يكون واضحاً في دعمه، فحتى مع تقديمه يومياً صلاة مسائية خاصة على نية لبنان، حوّل الانظار الشعبية صوبه، لاعباً على وتر انساني، ونازعاً عنه صفة التلون، وإن حرص على عدم كسر الجرة مع العهد والقوى السياسية. أسهم الضغط الشعبي في تظهير صورة الامتعاض من الفساد المستشري، مترافقاً مع انهيار اقتصادي واجتماعي، واستمر اسبوعياً، واحياناً يومياً، بإطلالة المتضامن مع المتظاهرين، ما منحه صورة ايجابية كان يفتقدها، وطمأن كهنة كانوا يشاركون في الساحات، رغم امتعاض بعض الاساقفة الذين كانوا حاسمين في تحذير كهنة من تأييد المتظاهرين. وهذا التباين انعكس ايضاً في رهبانيات توالي العهد، حرصت في مراكزها التربوية والجامعية على استيعاب ردود الفعل الطلابية وحصر التظاهر ومنع تحويلها الى «بؤر ثورية».
رفض الراعي انتقاد مصرف لبنان والمصارف لحجزها أموال المودعين


لكن هذا التضامن من قبل الراعي مع المنتفضين بقي مشروطاً بمنع المس بالمصارف. فرغم الانهيار الاقتصادي الذي تصل الى بكركي عشرات التقارير حوله، رفض الراعي انتقاد مصرف لبنان والمصارف لأدائها في حجز اموال المودعين، وتجريم «ركنين مسيحيين مارونيين»، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس جمعية المصارف سليم صفير، وكلاهما مقرّبان منه بطريقة أو بأخرى، بفعل تدخل شخصيات سياسية ومصرفية لديه. لكن الراعي لم يكن في حاجة الى محاولات إقناع كبيرة بما هو مقتنع به، خصوصاً ان مطالب المتظاهرين لم تحمل في الاسابيع الاولى استهدافاً للمصارف، لا بل إن جزءاً من القوى الحزبية التي شاركت في التظاهرات وقطع الطرق، تؤيد سلامة وترفض استهدافه. هذا الخيط الرفيع بين تأييد المطالب الشعبية ودعم المصارف ومصرف لبنان، لا يزال النقطة الاكثر سواداً في مقاربة بكركي لـ17 تشرين وما بعدها، وسط غمز عن خلفيات غير سياسية وراء موقفه، علماً بأن مؤسسات كنسية عديدة تعاني من أداء المصارف مع موظفيها، وهم يشكلون ركيزة اساسية في عمل القطاعات الكنسية. ورغم تصعيد المصارف إجراءاتها ضد المودعين، فإن الانفصام بين موقفي بكركي من مطالب الناس وإجراءات المصارف القمعية، لا يتناسب مع عظات الاحد وإنجيل الفقراء، لكنه بدا متناسباً مع كل الاحزاب المسيحية من دون استثناء.
لم يكن تأييد التظاهرات، لأسباب إنسانية وشعبية فحسب؛ ففي نظر مرافقين لهذا التحول، لا تنفصل السلوكيات الجديدة عن تأثير شخصيات، رافضة للمنحى الذي يتخذه العهد وحزب الله، على الراعي الذي يرغب في ترك بصمة سياسية على غرار أسلافه. ليست زيارة السعودية وحدها التي كشفت اشارات التغيير في أداء الراعي، إذ إنها ترافقت مع استعادة الحرارة في العلاقة مع السفارة الاميركية، بعد تصاعد الحركة الشعبية، ليتبعها تنشيط الاتصالات مع شخصيات سياسية وُضع لاحقاً في خدمة مشروع الحياد. شخصية حزبية رئيسية طرحت على الراعي فكرة الحياد، تلقفها وناقشها مع مسؤولين سابقين، فأعدّوا نص المشروع انطلاقاً من «تصعيد تدريجي لدوره الوطني - السياسي» منذ 17 تشرين. لم يستسغ مطارنة فكرة الحياد. بعضهم يراها غير عملية أو غير واقعية، وبعضهم يراها مقدمة مشروعة لأي حل مستقبلي يطرح للبنان، والبعض يراهن على عامل الوقت لتذوب الفكرة من تلقاء نفسها، ولا ترى فيها شخصيات تدور في فلك بكركي أي مغزى، لأنها انطلقت عبثياً، من دون إعداد أرضية صالحة لها. لكن الفكرة التي خلقت البلبلة بين رفض وتأييد، جذبت الى بكركي اهتماماً خارجياً، وليس تأييداً. الفاتيكان المراقب غير المتدخل مباشرة، وفرنسا التي اطلع رئيسها ايمانويل ماكرون على ورقة الراعي، فيما عادت الحركة الديبلوماسية العربية، والأهم الاميركية، تضج في صالونات الصرح. حققت بكركي من فكرة الحياد، وإنْ لم تترجم عملياً، هدفَها، وإنْ خسرت حزب الله، بمجرد أن جذبت الأوساط السياسية المعارضة واجواءً انطلقت في 17 تشرين، وأوساطاً شعبية، وبعدما لعبت قوى سياسية على وترها لترويج الفكرة القائمة في جزء اساسي على موقع حزب الله في معادلة ايران والمنطقة. هذا ليس عابراً في سنة واحدة، قياساً الى السنوات الاولى من حبرية الراعي، في انتظار خطوات تترجم التأييد اللفظي، لأن العظات وحدها لا تكفي لمعالجة أوضاع الذين تنهار أحوالهم الاجتماعية والصحية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا