قدّرت «ستاتيستيكس ليبانون» أعداد المشاركين في كلّ الساحات، وقت الذروة، في انتفاضة 17 تشرين بـ350 ألف متظاهر؛ فقد انفجر الناس في التاريخ المذكور وبعده، انفجاراً عظيماً طالت آثاره وشظاياه كل المساهمين في دفش البلد إلى شفير الإفلاس، والساكتين عنهم، وناهبي المدّخرات (جنى العمر) من المصارف. وبرز عدديّاً بين المنتفضين، الجيل المولود منذ أوائل الثمانينيات حتّى منتصف التسعينيات (الجيل الثالث، أو جيل الألفية)؛ إذا كانت الفئة العمرية بين 18 و21 سنة الأكثريّة المشاركة في الساحات والتجمّعات (46.7%)، وبين 22 و30 سنة (39.7%)، و31 و45 سنة (41%)، و45 سنة فأكثر (28%)، بحسب عينة بحث «ستاتيستيكس ليبانون» المؤلفة من 2400 شخص من كلّ المناطق اللبنانية والفئات العمرية (من 18 سنة حتى 45 منها فأكثر). ردّد الشبان والشابات «الشعب يريد إسقاط النظام» الممسوك من سبعة رؤوس، فتوجهوا إليهم، قائلين «كلن يعني كلن»، وتوعدّوا بإسقاط حكمهم (يسقط حكم الأزعر). وبيّنوا عن تهميش للهويّة الطائفيّة (شلاح طائفيتك برا)، التي لم تعد عنصرًا أساسيًّا في نشأتهم، وعن انفتاحهم على بعضهم البعض، فلم يسأل أحدهم الآخر: «من وين إنت؟»... قبل أن تحصل «التكويعة»، ويأتي رعايا الأحزاب المطرودة من جنة الحكم الحالي، للتصويب على الحكم حصراً، وتوجيه الشعارات في اتجاه الحلقة الأضعف فيه (التيار الوطني الحر ممثلاً برئيسه جبران باسيل)، وبصورة أقل على الحزب الأقوى في السلطة (حزب الله)، ولو أن جمهور المقاومة كان في عداد أوائل المنتفضين قبل أن ينسحب من الميادين، بطلب من الأمين العام السيد حسن نصر الله.
كان شبان وشابات جيل الألفيّة ينشطون، إمّا بصورة فردية، أو في إطار أندية طلابية، أو تجمعات أو حتّى منظمات غير حكومية، وقد واجه بعضهم القادم إلى ساحات الغضب من مناطق «ممسوكة» من أحزاب السلطة، بقبضة من حديد، النبذ والتهديد ومراقبة حساباته على وسائل التواصل. وفي هذا الإطار، بدت ظاهريّاً ملامح صراع أجيال، إذ ساءل الشبان والشابات أهلهم عن خياراتهم في الانتخابات، وحمّلوهم مسؤولية الخراب الذي وصل اللبنانيون إليه، بسكوتهم، وخضوعهم للسائد.

«هيبة كسرت»
لم تسلم محاولات سليم (اسم مستعار، 21 سنة) ترك عباءة أبيه ومحيطه الحزبي المتديّن، بدون تهديدات وقمع، فحريّة التعبير في مجتمع قائم في الأطراف يتشرّب الطفل فيه الأيديولوجيا الدينيّة منذ نعومة أظفاره، وسلطة الأب لا تزال فيه قائمة «مكلفة». يقول الشاب إن «مغادرة الضيعة في اتجاه المدينة لغرض الدراسة الجامعية سمح له بالتعرّف إلى جو جديد بعيد عن الإسلام السياسي، كما عززت قراءاته أسئلته وسهلت خروجه من الروح الأبوية الكامنة في صلب العقيدة، والحزب»، مضيفاً أن «بوستاته» على مواقع التواصل لطالما عرّضته لشائعات بثّت عنه ولما تزل في الضيعة، شائعات تضرب في الأخلاق وتحطّ من قدره أمام الأهل وأهل الرفاق، «ما جعل الشق مع الإيديولوجيا الدينية يتسع، ولم يعد هناك ما يردمه». 17 تشرين كان «حدثاً عظيماً» في وصف الشاب، الذي يقول: «على رغم إيماني بالفلسفة التشاؤميّة، شعرت بطاقة رهيبة، وأحسست بأن ثمة هيبة كسرت، حين مشيت منفرداً بين جموع تهتف الهتاف نفسه، من دون أن يطلب ذلك منها أحد، فتطالب بإسقاط النظام الطائفي، وبرغيف الخبز الذي هو أكثر قوة من أية عقيدة». ويضيف أن «الحالة العامة أشعرتني بأني غادرت حالة الطفولة، وكسرت القالب الأبوي، لو أن الثمن كان باهظاً».
شعرت بطاقة رهيبة حين مشيت بين جموع تهتف الهتاف نفسه من دون أن يطلب ذلك منها أحد


«علماني دائماً»
أدهم (33 سنة) المنتظم في حراك تغييري سياسي واجتماعي، منذ 2017، كان من الأوائل الذين تجمّعوا في ساحة رياض الصلح، على إثر الإعلان عن الضريبة المضافة إلى مكالمات الـ«واتسآب». مرّ انفضاضه عن النظام وأحزابه بزبائنيتها، بمراحل عدة؛ في المراهقة هو تشرّب التعاليم الأولية للعلمانية من أبيه الذي كان منتظمًا في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي. وفي هذا الإطار، يتذكر الشاب الثلاثيني أنّه ذهب مرّة إلى «كشاف النهضة» التابع للحزب القومي، ولم يكرّر «الفعلة»، على الرغم من تكرار دعوات الوالد له، إذ لم يستسغ حينئذ فكرة «عسكرة» المخيّم الكشفي. ثمّ، في سنوات المراهقة، مرّ الشاب في مرحلة الخضوع إلى أبويّة المجتمع عن طريق البحث عن «دائرة الأمان» داخل الطائفة لأن التمرّد والعزلة عن المجتمع مكلفان لشاب في مقتبل العمر يستهويه الشأن العام، ويرغب في أن يكون فاعلًا في المجتمع، ولا يمتلك أي امتياز أو استقلال مادي أو رفاهية التنقل، الأسباب التي تبقي هامش التحرّك محدودًا ومحصورًا في أطر ضيّقة. «كنت درزيًّا بتحفظ، بدون القفز قفزات عالية فوق الأسس العلمانية»، يقول الشاب، مضيفًا أنّ «التحول الكبير جاء في سنة 2005؛ فقد حثتني الحالة العامة إلى المشاركة الفعالة في التظاهرات التي تلت اغتيال رفيق الحريري، بعيداً عن الموقف منه، إذ دغدغت مشاعري الحالة العامة السائدة والنابذة للبعد الطائفي، فجاريت منطلقاتي التي كانت مترسّخة، لكن سرعان ما تبدّدت الآمال، بعد سماع الأخبار عن الحلف الرباعي، وملاحظة أفول إطار 14 آذار، وعودة كل مكوّن فيه إلى إطاره الضيّق»، لافتاً إلى أن هذه الفترة شهدت مناقشات عدة مع الأب وصحبه «الذين كانوا يتجمعون في منزلنا في الفكر القومي، إذ كنت لا أستسيغ ما يقال على لسان المحازبين فيه، وما يتضمّنه من تمييز لأنفسهم وتبيان تفوقهم». التحول الفعلي السياسي والاجتماعي، ومواجهة العائلة الكبيرة والصغيرة، والشرخ مع المحيط تمّ أثناء المشاركة في التظاهرات التي رفعت شعار إسقاط النظام الطائفي (سنة 2011)، في تجربة الشاب، بدون أن يعرف أية مجموعة من المجموعات اليسارية الداعية إلى هذه التحركات، وصولاً إلى 17 تشرين الأول 2019، الزلزال الذي ضرب السلطة، ووثّق الطلاق مع النظام الطائفي، والبعد عن التفاعل مع أية قضية حزبية أو سلطوية أو طائفية».

«بس ع الحريري؟»
يوم أعلن سعد الحريري استقالة حكومته (29 تشرين الأول 2019)، رجع أحمد (24 سنة) إلى منزله، فرحاً، ورافعاً إشارة النصر في وجه أبيه المناصر لـ«تيّار المستقبل»، والذي سرعان ما ردّ عليه، حانقاً: «الثورة بس عالحريري؟!».
يحمّل الشاب جيل أبيه، سواء من حارب منه خلال الحرب الأهلية أو عايش الحرب بدون أن يقاتل فيها، مسؤولية الانهيار الحاصل، إذ لم يتعظ هذا الجيل من الخسارات، بل على العكس من ذلك، أعطى شرعيّة لأمرائها حتّى يحكموا مجدّداً زمن السلم، وذلك من خلال انتخابهم في الدورات المتعاقبة، أو انتخاب أحزاب لم تشارك في الحرب لكنها أمعنت في الفساد. يقف الشاب العاطل من العمل موقفاً سلبيّاً من «المستقبل»، ويقول إنه «جزء لا يتجزأ من السلطة الفاسدة التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم، وقراراته مرهونة للمحور الأميركي، وهو متورط في لعبة الصفقات، وفي خلفية السياسات الاقتصاديّة المستغلّة». ويتابع الشاب المتحمّس: «أبي يتحمل جزءا من اللوم، والتركيبة المبني عليها لبنان أيضاً، وبقدر ما هو صعب أن تتغيّر عقلية أبي الطائفية، كذا هو الأمر في شأن تركيبة النظام، لو أن هذا الأخير أذى أبي كثيراً على الصعيد المادي أخيراً، للمفارقة». يتذكر أن أباه كان يردّد في الأيام الأولى من الانتفاضة: «كما أسقطتم الحريري، عليكم بالرئيسين الآخرين (عون وبري) حتى نخلص من التركيبة، ولو أنّه لم يكن مقتنعاً بالانتفاضة، ورأى فيها خسارة فادحة للطائفة السنية»، فأرد عليه إن «ما حصل في الانتفاضة كان من المفترض أن يحصل بعد اتفاق الطائف الذي كرّس طائفية المناصب، وبعد تحويل أرزاق الناس في البلد إلى سوليدير».

«ليسوا آباءً بل أمراء ومشايخ»
تقول استنتاجات عالمة الاجتماع مارلين نصر، من مشاركتها في ساحتي رياض الصلح والشهداء، منذ الأيام الأولى لاندلاع انتفاضة 17 تشرين إن «انفجار الجيل الثالث في انتفاضة 17 تشرين، دوّى في وجه سلطة على رأسها أمراء ومشاريع مشايخ وسلالات متكوّنة أصلاً أو هي في طور التكوّن، كلّهم يستخدمون الخطاب الرعوي (الأبوي) في المجال العامّ، ليستلبوا العواطف، فيما هم ليسوا آباءً فلا نرى أولادهم سوى في حالات قليلة، ولا يظهرون لنا كعائلات». لذا، ترى نصر أن «صرخات الجيل الثالث في الانتفاضة لم تتوجّه إلى وجه الآباء بل إلى المسؤولين عن تهميش الآباء وعن قهرهم وعن جعلهم عاجزين عن القيام في تأمين شؤون عائلته. هتافات الشباب تناولت من لا يعرفون سوى تجميع المال وتوريث السلطة». وقد سعى الجيل الثالث، مع الجيل الثاني، إلى تنظيم نفسه خلال الانتفاضة، فتولّدت الجمعيات والتجمّعات داخل الساحات، قبل أن تخترقها الأحزاب وتحرف الهتاف عن وجهته (أي النظام السياسي الطائفي بكليّته)، في اتجاه الحكم (الراهن). إذن، لا قطيعة مع الأب من قبل شبان وشابات الجيل الثالث في ساحات انتفاضة 17 تشرين بحسب تصوّر نصر، بل صرخات وغضب وتجمّعات، في محاولات إنقاذيّة للعائلة (الأب والأم المعيلان اللذان لم يفيدا من النظام، وتفانيا في العمل، لكنّهما على الرغم من ذلك خسرا الوظيفة والمال في الحساب المصرفي.. حتّى الأهل المحازبون كانوا على الهامش في أحزابهم، إن لم يشغلوا موقع عظام رقبة الزعيم في الجسم الحزبي). ومحاولات لإسقاط النظام برؤوسه المسؤولة عن مستقبله المسدود، وانكساحه، فالشباب وعوا أن الأحزاب الطائفية تفكك العائلة، أساس المجتمع اللبناني.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا