التعليم في انحدار كبير، منذ ما قبل 17 تشرين وجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية. صحيح أن انحداره تسارع في الأشهر الأخيرة، لكنه كان ينازع منذ ما قبل ذلك بسنوات. ورغم محاولة إحيائه، بعد الحرب، بمناهج جديدة وطرق تعليم متقدمة، إلا أن «النهضة» التي شهدتها هذه المرحلة لم تكن مستدامة ولا حقيقية. فهي، بالشكل، اعتمدت على تحديث المناهج. لكن، في التنفيذ، لم يحصل ذلك إلا في بعض المدارس النموذجية، الخاصة والرسمية، مما عزز الهوّة مع المدارس الأخرى والتلامذة الأقل حظوة. بعدها، أتت المشاريع التمويلية الدولية الكبرى لدفع التعليم مجددًا ومحاولة سد ثغرة غياب سياسة تربوية شاملة، مرنة وحديثة، تتماهى مع استدامة الرؤية والأهداف التي وضعتها مناهج 1997 وآليات تنفيذها وتطورها. إلا أنها لم تصب حظاً كبيراً من النجاح. فقد تبع إطلاق المناهج الجديدة، قرار حكومي عام 1998 بوقف التوظيف في القطاع العام. وانعكس ذلك على قطاع التعليم الرسمي، إذ تبعه وقف دور المعلمين ووقف تعليم المواد الإجرائية كمواد إلزامية (الرسم، المسرح، التكنولوجيا والموسيقى)، وترك لمدراء المدارس الإستنساب في شأنها، رغم أنها تشكل مادة أساسية في رؤية المناهج وأهدافها.وبطبيعة الحال، فرض توزع الحصص السياسية علاقات مبتورة بين المؤسسات الوطنية. فكلية التربية، مثلاً، لم تعدل مناهجها ولم تحدّث طرق تعليمها لتتماشى مع المناهج التعليمية، لأن لا صلة بين الكلية وبين المركز التربوي الذي ينتمي الى «حصة» فريق آخر. ولم يسر تدريب المعلمين على طرق التعليم والمناهج الجديدة كما ينبغي لأنه كان من حصة فريق ثالث. فيما اعترض فريق رابع على إدخال المسرح والموسيقى كمادة إلزامية لأسباب عقائدية... وهكذا.
والأنكى أن وقف التوظيف في قطاع التعليم الرسمي والمؤسسات المعنية بالتربية لم يسر على التحاصص. فاستبدل معلمو الملاك بمتعاقدين لا نفوذ إدارياً عليهم ولا ترقيات أو ضمانات أو حوافز أو استقرار وظيفي لهم. وانعكس ذلك تدنياً في مستوى التعليم الرسمي في غالبية المدارس، فتكاثرت المدارس الخاصة كالفطريات بين عامي 2000 و2010 ، واستثمرت فيها الأسر اللبنانية، خصوصاً من الطبقة الوسطى، عشرات آلاف الدولات لتعليم أولادها، ما فاقم من جشع هذه المدارس وسطوتها. وبالتوازي، وللمفارقة، فقد المعلّم حوافزه ولم يعد التعليم مهنة لائقة تشجع النخب على الإنضمام إليها، مع تدهور مستوى التعاطي الإداري في القطاع العام، وتدني رواتب الخاص والعام بالمقارنة مع غلاء المعيشة، والتبعية السياسية للنقابات (قبل هيئة التنسيق النقابية). وهكذا، تساوت اعداد معلمي الملاك بالمتعاقدين وخسر القطاع الرسمي كادرات خبيرة بفعل التقدم بالسن، لم تُستبدل بخبرات مستدامة من الشباب عبر توظيفهم.
لم نر في العقود الماضية سياسة تربوية واضحة، اللهم باستثناء ما تضمنه تحديث المناهج الذي لم يُطبّق كاملاً، وخسر الكثير من مكوّناته نتيجة التناحر السياسي، فظهرت خلافات بين وزراء التربية المتعاقبين ورئيسة المركز التربوي، غالباً ما انتهت بتسويات ومحاصصة وإعادة توزيع قطاعات النفوذ.
في المقابل، خبرنا سياسيين ونواباً من أصحاب المدارس (رئيسة لجنة التربية النيابية بهية الحريري، مثلاً، تمتلك مؤسسات تربوية خاصة عدة) يعطّلون، منذ سنوات، تشكيل المجالس التحكيمية التربوية تلبية لمصالح المدارس الخاصة واتحادها. (المجالس التحكيمية التربوية هي الهيئة القضائية المخولة البت في النزاعات بين الأهالي والإدارات المدرسية وتحيل وزارة التربية المدارس المخالفة للقوانين إليها).
ما عرضناه هو نتاج فقدان سياسة تربوية مستدامة ترسم أفق التعليم، وماذا نريد منه، وهل يدخل ضمن استراتيجيات الدولة الاقتصادية والثقافية والصحية وكيف؟ علماً أن أي وزير للتربية لم يقم بمحاولة جدية لوضع سياسة تربوية وطنية، بل كانت كل محاولاتهم تتعرقل عند الضجيج المفتعل لصياغة مضمون كتاب التاريخ.
اليوم، أمام الأزمة الاقتصادية، يقف التعليم على مفترق طرق، رغم المساعدات بمئات ملايين الدولارات، والتي لم تظهر لا في تجهيز للمعلمين وإعدادهم ولا في نوعية التعليم. ولا يقتصر الأمر على سوء إدارة أو رشوة أو سرقة أموال عامة أو تلزيمات وعقود مشبوهة فحسب، بل ايضًا نتيجة عدم أهلية الساسة ومستشاريهم وزيف الجهات المانحة التي تتعمد دعم مشاريع ومؤسسات تعلم سلفًا انها فاسدة وتتلاعب بالتزاماتها وتزيّف إنجازات لجعلها واجهات تبهر المانحين.
كما أن هناك زيادة لـ 60 ألف تلميذ نزحوا إلى «الرسمي» هناك تراجع يتعدى الـ 100 ألف في عدد تلامذة «الخاص»


نحن امام مأزق حقيقي في التعليم. فكما أن هناك زيادة موثقة لـ 60 ألف تلميذ جديد نزحوا إلى التعليم الرسمي، هناك في المقابل تراجع في أعداد التلامذة المسجلين في التعليم الخاص يتعدى الـ 100 ألف (استنادًا إلى تصريح المطران رحمة حين ذكر ان نسبة التسجيل، منذ ثلاثة أسابيع، لا تتعدى 25% في المدارس الكاثوليكية وقد تصل إلى 45%). هذه الأرقام تجعلنا نفكّر ليس فقط في القدرة الاستيعابية للمدارس الرسمية وأسباب النزوح اليها، بل تضع نصب أعيننا تساؤلات جوهرية حول: ماذا سنقدم لهؤلاء التلامذة وما هو دور المدرسة؟ هل هي حضانة يلهو فيها الأولاد لحين عودة الأهل من العمل (إذا كان بعضهم لا زال ناشطًا) أم نريد مؤسسة تربوية جادة لها وظيفة إنمائية مستدامة.
لقد وضعنا الساسة في مأزق، ولا يزالون يتعاطون معنا كالخراف، ويمنّون علينا بمقعد دراسي فنهمد. وما قانون «الدولار الطالبي» الذي أقر أخيراً إلا مثلاً على ذلك. فهل نصدّق أن مصرف لبنان سيسهّل هذه العملية؟ وحتى لو صفت النيات هل يملك الدولارات الكافية؟ الساسة يحلّون مشكلة آنية شكلاً ، عبر دعم الدولار الطالبي أو الدوائي أو غيرهما. لكن لا استدامة ولا سياسة ولا تعليم ولا أفق للحل.

* باحث في التربية والفنون

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا