إذا صحّ أن مسوّدة الحكومة الجديدة جاهزة، سواء قُدّمت البارحة الى رئيس الجمهورية ميشال عون أو لم تُقدّم، لا تعدو مشاورات بعد الظهر واليوم سوى تغطية لاحقة لما كان يُفترض أن يكون قد حصل قبلاً. يقتضي أن تكون المشاورات بين يدَي الرئيس مصطفى أديب، لا رئيس الجمهورية، لأكثر من سبب تبرّره الصلاحية الدستورية نفسها المعطاة للرئيس المكلف.ما إن يصبح التكليف بين يديه، لا يعود ثمّة دور مقرِّر لرئيس الجمهورية إلا عندما يتسلّم مسوّدة الحكومة الجديدة كي يوافق عليها، فيمهرها بتوقيعه، أو يطلب تعديلها، أو يرفضها تماماً. إذذاك، يقرّر الرئيس المكلّف الاستمرار في مهمته أو الاعتذار أو الاعتكاف. التوقيت الطبيعي للمشاورات أن تلي التكليف، وهو حق دستوري، إلا إذا أقرّ الرئيس المكلف بتعثّر تأليفه الحكومة، فيسلّم بحاجته الى جولة جديدة من تلك.
ما حصل البارحة لا يمتّ بصلة الى ذلك كله. لم يُقرّ أديب بعد بفشله، ولا بعجزه عن وضع مسوّدته وهي موجودة كلياً أو جزئياً، ولا بتسليمه بشروط الكتل والأحزاب التي أحجم عن التشاور معها سوى في مشاورات ما بعد التكليف، ولا اعترف بأن تأليف حكومة وفق المعايير التي وضعها، مصغّرة تضم وزراء اختصاصيين لا حزبيين فيها ولا نواب، أخفق أو تخلى عنه.
بذلك، في ضوء الاجتماع الثالث ما بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، بعد اثنين في 3 أيلول و8 منه، لم تصدر أي إشارة سلبية عن خلافهما. أضف أن ما أصاب الكتل والأحزاب في إبعادها عن مسار التأليف، لحق برئيس الجمهورية الى حد الاعتقاد باختصار دوره بتوقيع مرسوم تأليف الحكومة. لذا بدت لافتةً دعوة الرئيس الى مشاورات في قصر بعبدا يُفترض أنها تقع في صلب التكليف المنوط بالرئيس المكلف. مع ذلك، لا إشارة محدّدة تنبئ بتحوّلٍ في مسار تكليف أديب يجعله يتجاهل الأيام الستة عشر منذ يومه الأول في 31 آب، وتصرّفه مذذاك على أنه المعني وحده بما يفعل.
ليس عادياً أيضاً ومعتاداً في العهد الحالي، أن رئيس الجمهورية خلافاً للحكومات الثلاث المنصرمة، أعوام 2016 و2019 و2020، لا يأتي على ذكر حصته في الحكومة الجديدة ويتشبّث بها، ولا الحقيبة السيادية، ولا منصب نائب رئيس الحكومة. بل لم يعد أحد يسمع بحقائب سيادية، وأخرى خدماتية مكتنزة ومدرارة يتنازع الأفرقاء عليها. أضف أنها المرة الأولى التي ينسحب فيها الرئيس من دور الشريك الفعلي في التأليف، المعني بمعاييره أولاً وأخيراً على نحو ما فعل بمسوّدة الرئيس سعد الحريري في أيلول 2018، برفضه إياها وإعلانه هذا الرفض لإخلالها بالمعايير تلك.
الواقع أن ما يحصل مع أديب، حلِمَ به الرئيس رفيق الحريري منذ اليوم الأول له في السرايا، ولم يحظَ إلا بالقليل القليل منه.
حتى مساء الأحد، لم يكن ثمّة ما يشير، قطعاً، إلى أن الحكومة ستبصر النور الاثنين. إلا أن أحداً لم يتوقع أن يقفز التأليف عن منتصف ليل الثلاثاء، اليوم، موعد نهاية مهلة الخمسة عشر يوماً التي أعطاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس المكلف والقيادات اللبنانية، لإنجاز تأليف الحكومة الجديدة. لم يكن ثمّة ما أنبأ أيضاً بالحاجة الى مشاورات مع الأفرقاء جميعاً، ولا سيّما منهم الذين أعلنوا منذ اليوم الأول حتى الأحد رفع الأعلام البِيض: لا يريدون التوزير، ولا أي حصة أو حقيبة مباشرةً أو على نحو غير مباشر، ولا رشحوا قريبين منهم أو بعيدين، كتيار المستقبل والتيار الوطني الحر وسليمان فرنجية، بينما نأى وليد جنبلاط وسمير جعجع بنفسيهما سلفاً عن الحكومة الجديدة، فسبقا الآخرين الى الخلاصة نفسها. وحده الثنائي الشيعي تناوب الأدوار.
حتى السابعة مساء أمس، كان في الإمكان تمييز موقف رئيس مجلس النواب نبيه برّي عن موقف حزب الله بفروق ضئيلة، ذات دلالة هامشية، لكنها لا تفضي إلى نتائج متنافرة أو متناقضة. لزم حزب الله الصمت، تاركاً التفاوض لبرّي الذي ركّز على هدفين: أن تكون وزارة المالية للشيعة لسبب ميثاقي انسجاماً مع ما اتفق عليه في اتفاق الطائف، وأن لا يُفرَض عليه ولا على حزب الله ــــ مع أن تفاوضه الأولي كان باسمه كحركة أمل ــــ وزراء لا يعرفونهما أو يُهبَط بهم عليهما. لذا وافق على مبدأ توزير شيعة من خارج الثنائي، على أن يكون هذا الفريق هو الذي يسمّيهم من بين الاختصاصيين، وفق ما يتمسّك به الرئيس المكلف.
باستثناء الثنائي الشيعي، رفعت الكتل والأحزاب سلفاً الأعلام البِيض


عندما شاع مساء الأحد أن تأليف الحكومة لا يأبه لموقف الثنائي الشيعي ويتجاهله، بما في ذلك مشاركته في الحكومة، متمسّكاً بمداورة كاملة ما بين الحقائب، أضف معلومات متناقضة عن فحوى المكالمة الهاتفية بين رئيس البرلمان والرئيس الفرنسي أوردت معطيات متباينة، خرج حزب الله عن صمته وأدمج موقفه بموقف برّي تماماً. راحت المعطيات الجديدة تتحدّث عن أن الموقف الشيعي يمثّله الثنائي وليس رئيس المجلس فحسب، وإن يكن هو المفاوض. تبنّى الحزب وجهة نظر حليفه في الإصرار على حقيبة المالية، وعلى اقتراح أسماء يختار من بينها الرئيس المكلف، ولا يأتي من خارجها، مع تبرير الاسم الذي يسقطه. ما لبثت بعض التكهّنات الناجمة عن الموقف الجديد هذا، أن تحدّثت عن تريّث فرنسي يؤجّل فرض حكومة أمر واقع على الفريق الشيعي ما دام الأفرقاء الأساسيون الآخرون ــــ حلفاء برّي في الأصل ــــ قد تخلّوا عن أي دور وموقع، وسلّموا بالاندفاعة الفرنسية بعصا غليظة هي العقوبات.
كانت هذه أحد دوافع عناد أديب، وإصراره على حكومة لا يستأذن بها أحد بمَن فيهم رئيس الجمهورية، أضف الثنائي الشيعي. ما إن أعلن الرئيس الفرنسي في الأول من أيلول أنه يبحث مع شركائه الأميركيين والأوروبيين في فرض عقوبات، تلقّفت واشنطن السانحة وفرضت في اليوم الثامن على تصريح ماكرون عقوبات على وزيرين يمتّان بصلة عميقة للثنائي الشيعي، هما: علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.
مع ذلك، من غير المؤكد أن المشاورات الشكلية، العديمة الجدوى، التي بوشرت بعد ظهر أمس، من شأنها وضع تأليف الحكومة في مسار مناقض لما آل إليه حتى البارحة. لم يصدر بعد موقف فرنسي واضح عن استعداده للقبول بتجاوز مهلة الرئيس الفرنسي المنتهية اليوم، الملزمة للأفرقاء اللبنانيين يوم أُعلِن عنها، وقال ماكرون إنهم تعهّدوا له بها. كذلك ليس ثمّة ما يشير إلى أن الرئيس المكلّف سينحني للأحزاب والكتل، إلا إذا أدار له الظهير الظهر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا