أول ما يخطر على البال لدى الحديث عن الـ«فاليه باركينغ» هو أوصاف «الميليشيات» و«العصابات» و«الزعران» التي أطلقت على العاملين في هذه «المهنة»، والتي ساهمت ممارسات كثيرين منهم في ترسيخها. لكن، خلف هذه الصورة القاتمة واقع أكثر سواداً، وظروف اجتماعية واقتصادية صعبة دفعت بآلاف من الشبان إلى «شغلة صفّ السيارات»، فقط لأنهم لا يجيدون إلا القيادة. هؤلاء، بغالبيتهم الكاسحة، باتوا اليوم في «صفّ» العاطلين من العمل الذي يكبر يومياً.لم يكن الـ«فاليه» ظاهرة كما هو شائع، بل نتيجة «منطقية» لنمط حياة اعتاده اللبنانيون وأثبت الانهيار الاقتصادي مدى زيفه. وهو كان صورة عن اقتصادنا غير المنتج، حيث لا كدّ ولا تعب، واستسهال توكيل الآخرين بمهام نحن قادرون على القيام بها مقابل آلاف قليلة من الليرات، من دون أن يعني ذلك التقليل من محدودية المساحات المتوفرة لركن السيارات، خصوصاً في العاصمة. وهي محدودية ساهم من يشغّل هؤلاء الشبان في تعظيم أثرها باستيلائهم على ما تبقى من أماكن عامة ومساحات شاغرة، فارضين أنفسهم «حلاً» لا بد منه.
كان أثر الأزمة الاقتصادية فادحاً على الـ«فاليه»، مع إقفال عدد هائل من المؤسسات، قبل أن يدقّ فيروس كورونا مسماراً إضافياً، وربما أخيراً، في نعش «خدمة ركن السيارات» التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، قبل أن تندثر أو تصبح مقتصرة على أماكن محددة.
تقديرات بعض من أبرز شركات الـ«فاليه» في لبنان تشير الى أن عدد العاملين في هذه «المهنة» يناهز الـ10 آلاف، وإلى أن عدد الذين تمّ التخلي عن خدماتهم في الأشهر الماضية تخطّى الـ8 آلاف. في الأغلب، نتحدث هنا عن أشخاص لا يملكون أي مؤهلات علميّة أو وظيفية، وجلّ ما يجيدونه ويستهويهم هو قيادة سيارات قد لا يتمكنون من اقتناء بعضها أبداً. وإلى هؤلاء هناك أيضاً، بحسب صاحب شركة VPS إبراهيم مزيد، «عدد غير قليل من متخرّجي الجامعات والموظفين الذين يبحثون عن فرص عمل بدوام جزئي تؤمن لهم مداخيل إضافية». في «أيام العز»، قبل شهور قليلة، كان الواحد من هؤلاء يتقاضى 4000 ليرة في الساعة، تضاف اليها نسبة مئوية بحسب عدد السيارات التي يركنونها، كما تخضع لاعتبارات المنطقة والدوام، سواء كان نهارياً أم ليلياً وغيرها. من بقي في عمله من «الموظفين الثابتين» في الشركة، بحسب مزيد، «يعملون اليوم بدوام أقل ويقبضون نصف راتب».
فادي عنيسي، أحد المديرين في شركة Liban Park، يلفت الى أن «الزبون الذي كان يطلب 10 فاليه أصبح يكتفي اليوم باثنين فقط. في مثل هذا الوقت من السنة، مثلاً، كنا نؤمن حوالى 150 شاباً للعمل في منطقة برمانا وحدها، لكونها مقصداً للسيّاح. وكنا على مدى ثلاثة إلى أربعة أشهر نوفر الخدمة لنحو 40 ألف سيارة. اليوم لا يتعدى شباب الفاليه في المنطقة العشرة مع استمرار إقفال المطاعم والمقاهي بسبب كورونا والضائقة الاقتصاديّة». وهو واقع تعيشه شركة VIP أيضاً التي يؤكد مديرها جورج هبر أن «عدد موظفينا كان يصل في ذروة الموسم إلى 550 شاباً، فيما لا يتجاوز عدد هؤلاء اليوم الـ70».
تراجع عدد العاملين في هذه «المهنة» من 10 آلاف إلى أقل من 2000


يرجّح العاملون في هذا المجال أن خدمة الفاليه ستنحصر بعد الآن بالمؤسسات والفنادق الكبيرة والمستشفيات والمصارف، وبأن الزمن الذي اعتدنا فيه توافر هذه الخدمة بشكل عشوائي ولدى أبسط المتاجر والمؤسسات انتهى إلى غير رجعة، أقله في المدى المنظور. يلفت هبر الى أنه «في مثل هذه الفترة من العام كنا في العادة نجدد الكثير من العقود ونبرم عقوداً جديدة. هذه السنة لم نبرم أي عقد بعد». ووفقاً لمزيد «الكثير من الشركات طلبت منا وقف الخدمة». أما حجم الأعمال هذا الموسم مقارنةً بالصيف الماضي فـ«لا يتعدى 10%» بحسب عنيسي. أضف الى ذلك أن «الـ4 آلاف ليرة باتت تساوي أقل من دولار. ومع استحالة رفع التعرفة لعدم قدرة الناس على تحملها، والأخذ في الاعتبار التراجع الكبير في أعداد الزبائن الى 10% فقط من أعدادهم في الأعوام الماضية، فإن حماسة العاملين في هذا المجال ستخف، لأن المردود البسيط أصلاً لم يعد يساوي شيئاً».
فيروس «كورونا» ساهم، أيضاً، في تجنب «موت» الخدمة. يشير مزيد إلى أن «75% من الزبائن باتوا يفضّلون ركن سياراتهم بأنفسهم خوفاً من التقاط العدوى، رغم التدابير الوقائية التي نعتمدها». وهي تدابير، بحسب هبر، «زادت الكلفة علينا بشكل كبير، إذ إن السيارة باتت تكلفنا حوالى 2500 ليرة ثمن الكمامات والقفازات والمعقمات وأغطية المقود والمقاعد التي نزود موظفينا بها».