لا أثر للدولة ولا لقضائها المتآكل في ارتفاع سعر صرف الدولار. يفتح الصرّافون على حسابهم من دون حسيب أو رقيب. يشترون الدولار بين ٣٧٠٠ ليرة و٣٩٠٠ ليرة، ويرفضون بيعه إلا بكميات قليلة، فيما يعقدون ــــ تحت أعين المخبرين ــــ صفقات من تحت الطاولة لبيعه بأكثر من ٤٢٠٠ ليرة، وصولاً إلى ٤٥٥٠ ليرة ليل أمس. وبحسب مصادر معنية، فإن هناك اتفاقاً بين الصرّافين الذين يشترون الدولار وفق سعر السوق المُعلن (بين ٣٧٠٠ و٣٩٠٠ ليرة)، على الامتناع عن بيعه، سواء بسعر مرتفع أو منفخض، لمعرفتهم بأنّه سيرتفع مع حلول نهاية الشهر حين تمتلئ السوق بكميات كبيرة من الليرة ويحين استحقاق دفع التزامات العمّال الأجانب بالدولار، ناهيك عن ارتفاع سعر الدولار في سوريا. تزامن ذلك مع قرار لدى الصرّافين الكبار بعدم ضخ كمية كبيرة من الدولارات في السوق في ظلّ الحملة الأمنية التي تطاول الصرّافين الصغار. وقد عزّز ذلك احتكار الدولار لدى صرّافين محددين يبيعونه بالخفاء بأسعار وصلت إلى ٤٥٥٠ ليرة.توقيف الصرّافين لم يؤدّ إلى نتيجة في معظم الدول التي واجهت أزمات نقدية. تعليق المشانق للصرّافين في إيران وحملة الاعتقالات الواسعة التي طاولتهم في تركيا لم ينجحا في وقف الانهيار أو تأخيره. ورغم «انتفاضة» المدّعي العام المالي لضبط التلاعب بسعر صرف الليرة ووقف المضاربة، وتوقيف نقيب الصرّافين محمود مراد ونائبه الياس سرور ومجموعة كبيرة من الصرّافين بتهمة مخالفة قانون النقد والتسليف والتلاعب بالدولار، فإن شيئاً لم يتغيّر. مكَث هؤلاء أياماً قليلة في السجن قبل أن يخرجوا بموجب إخلاءات سبيل ليعودوا إلى ممارسة عملهم. هكذا أُخلي سبيل جميع الصرّافين بكفالات زهيدة وفُضّت أختام الشمع الأحمر عن محالهم.
إثر توقيف نقيب الصرافين، أعلن القاضي ابراهيم، في 11 أيار الماضي، أنه ادّعى عليه بعد ثبوت مساهمته في التلاعب بسعر الدولار، وأن مراد لم يقدّم تبريرات مُقنعة رداً على التهم التي وُجهت إليه، وأكّد أنّ القرار بالتوقيف والادّعاء استند الى وقائع بعيداً من الانفعال والتسرّع، معتبراً أنّ «المسألة تتعلّق بنقيب وليس بصرّاف عادي، ولذلك كنت حريصاً على مقاربتها بدقة عالية»... بعدها بأيام، كان نقيب الصرّافين يمارس عمله كالمعتاد، ويتوجه مع زملاء له إلى السرايا الحكومية للقاء رئيس مجلس الوزراء حسان دياب وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة للمشاركة في بلورة حلّ لأزمة الليرة، رغم أنّهم مدعى عليهم بالمضاربة لخفض سعرها! يومها شدّد ابراهيم على أنّ الحملة ضد المتلاعبين بالدولار ستتواصل «بحزم وبلا هوادة»، و«ستؤدي الى تخفيض نسبي للسعر وضبطه عند السقف الموضوعي الذي يجب أن يكون عليه»، لكنّ الدولار اليوم أعلى مما كان عليه يومها.
جميع الصرافين الموقوفين أخلي سبيلهم بكفالة مالية وعادوا لممارسة عملهم


صرّافون أُخلي سبيلهم أكدوا لـ«الأخبار» أنّ حملة التوقيف جاءت «بمثابة الاقتصاص من الحلقة الأضعف في سلسلة الصيرفة». إذ إن الصرّافين، وفق أحدهم، «لم يكونوا السبب في ارتفاع سعر الدولار، إنما قرار حاكم مصرف لبنان الذي حال دون حصول اللبنانيين على التحويلات من الخارج بالدولار»، مشيراً إلى أنّ إجراءات المصارف لمنع المودعين من سحب ودائعهم بالدولار وفرض شروط تعجيزية وتقنين الدفعات الشهرية، كلها كانت أسباباً رئيسية لفقدان الدولار وارتفاع الطلب عليه، ما ضاعف سعره. الصرّاف الذي أوقف لنحو أسبوعين بتهمة المضاربة قبل أن يخرج بكفالة شدد على «أننا لسنا سبب الأزمة، إنما شاءت الظروف أن نكون من المستفيدين منها». في مقابل كلام الصرّافين، يحضر موقف مصرفي مؤكداً «وجود عملية مضاربة أبطالها الأساسيون هم الصرّافون».
هكذا لم تُغيّر الحملة على الصرّافين شيئاً. لا يزال الدولار يرتفع، فيما يقف مصرف لبنان عاجزاً. بالأحرى لم يتدخّل المصرف المركزي للجم الارتفاع الجنوني للدولار. كل الوعود التي قُدِّمت عبر بيانات رسمية بشأن التعهّد بتثبيت سعر صرف الدولار بقيت حبراً على ورق. ليل أمس، وبعد نزول مئات المتظاهرين إلى الشوارع، في العاصمة وغيرها، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بياناً طلب فيه من «جميع الصرافين المرخصين من الفئة «أ» أن يتقدموا من مصرف لبنان بطلباتهم لشراء الدولار تبعاً للأسعار التي تحددها نقابة الصرافين يومياً والتي يفترض أن تنخفض تدريجياً. على الصرافين أن يعللوا طلباتهم وأن يذكروا اسم المستفيد. يقوم مصرف لبنان، خلال 48 ساعة، بتحويل الطلبات التي قدمت من الصرافين والتي تم الموافقة عليها من قبل المصرف المركزي الى حساباتهم الخارجية لدى المصارف التي سيشير إليها الصراف عندما يتقدم بالطلب الى مصرف لبنان. وتقوم المصارف بتسديد هذه الطلبات وتسليم الأموال نقداً. أما في ما يتعلق بالصرافين غير المرخصين والذين يعملون خارج القانون، فستتم ملاحقتهم ومعاقبتهم تبعاً لقرارات الحكومة ووزارة الداخلية. يضاف أن أي صراف مرخص يقوم بالعمل خارج هذه الآلية سوف يحال الى الهيئة المصرفية العليا وتشطب رخصته».
فهل سينجح مصرف لبنان في السيطرة على انهيار سعر صرف الليرة، أم أن هذا الإجراء، المتأخر سيكون مجرّد مسكّن ألم لمُصاب بمرض عُضال؟