يجب أن نعترف بأنّ المدارس ما قبل «كورونا» تعاني من مشاكل بنيوية حقيقية. إذ لم تكن تحاكي الحياة الفعلية للأولاد خارجها. فهي لا تزال عالقة في القرن العشرين ولم تنتقل إلى القرن الحادي والعشرين.ولعل «كورونا» تكون قوة الدفع، أو Positive Shock، التي تفهم القيادات العليا قبل قادة المدارس (المديرين) بأن نظام التمدرس الذي نحن فيه قد عفا عنه الزمن، وأن الوقت للتغيير الحقيقي لم يعد ترفاً، بل ضرورة في ما لو أرادت المدرسة أن تبقى وتستمر كمنظومة.
التغيير ليس فقط هرمياً من الأعلى للأسفل، وإنما التغيير الأقوى هو الذي يحدث من الأسفل للأعلى Bottom up. صحيح أننا نحتاج إلى قرارات الوزارات والمعنيين التربويين، لكن هناك تغييرات حصلت في عدد من الدول نتيجة تجارب مدارس نجحت في كسر القواعد وتغيير المعادلات، وهي التي تُعرف بقصص النجاح.
ولعلّنا اليوم أكثر ما نكون قريبين من دراسات صدرت عام 2005 لكل من Gilbert, Freedman, Bereiter الذين تحدّثوا عن تحول المعرفة من «شيء نملكه» إلى «شيء نفعله»، وإلى حتمية التحول بالتعلم إلى شبكات معرفية شخصية (PKN) والتعلم كونه تشبيكاً (LaaN).
لنجعل من محنة «كورونا» منحة للتربية والتعليم ونستغل الفرصة في التحديث والتجديد والتغيير. ولنسأل أنفسنا كمديري مدارس: كيف يتعلّم الأولاد بالطريقة المثلى؛ ولنعلّمهم كما يتعلّمون. في هذا السياق أضع بين أيدي قادة المدارس نصائح ثماني في هذا السياق:
أولاً، عندما تنتهي «كورونا» على المدرسة أن لا تعود إلى طبيعتها! العودة إلى الروتين الذي كانت عليه المدرسة يعني أنها لم تستفد من هذه المرحلة وأنها أجهضت فرصةً ذهبية لاستثمار المحنة وتحويلها إلى منحة تربوية.
ثانياً، إيلاء اهتمام أكبر بتكنولوجيا المعلومات والاتصال. فقد تفاوَتَ اهتمام المدارس بتكنولوجيا المعلومات والاتصال. منها من تعاطى معها سابق على أنها ترف، وبعضها تباهى بها واستخدمها للدعاية، وآخرون وظّفوها بشكل صائب فوجدوا أنفسهم في مراحل متقدّمة من التعاطي الإيجابي مع المشكلة الحالية. ومستقبل التعليم كما وصفه الباحثون السابقون وأثبتته التجربة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة التكنولوجية Digital Literacy التي يجب أن تعززها المدارس وتطوّرها في روّادها. ولا نعني بذلك رصد المبالغ المرقومة، إنما - وبكل بساطة - استخدام أبسط الموارد مثل الهاتف المحمول الذي بات متوفراً تقريباً للجميع.
ثالثاً، التذكر بأن قياساً واحداً لم يعد يناسب الجميع. فرغم محاولات المدارس الاهتمام بالفروقات الفردية للمتعلمين وتفريد التعليم، إلا أن نتائج معظم هذه المحاولات أتت متواضعة. ونحن في أشد الحاجة اليوم لقياسات متعددة تتناسب وأدمغة التلاميذ المختلفة النمو والخبرة. لذلك من الجيد أن تبدأ الدوائر التعليمية في المدارس العمل على إعداد حقائب تدريبية تتناسب وقدرات المتعلمين المتفاوتة والمختلفة.
رابعاً، الاقتناع بأن القليل هو أكثر (Less is More). لا يختلف اثنان في الميدان التربوي اللبناني بأن مناهجنا تعاني الحشو غير المبرر وغير المفيد للتلاميذ. ولعلّنا اليوم أكثر من أي يوم مضى نتحسس أهمية مراجعة ما نقدّمه لأبنائنا. فلننظر إلى المناهج من جديد ونحدد الأولويات فيها ولنركّز على إكساب المتعلمين المهارات بدلاً من المعرفة التي - كما رأينا أثناء هذه التجربة - لا يمكن حجبها عنهم لأنها بمتناول يدهم وبكبسة زر «الموبايل». وقد تبيّن لنا أثناء هذه الفترة بأن المهم أن يعرف التلاميذ كيف يعلّمون أنفسهم، هذا ما يجب أن يتضمنه محور مراجعة المناهج.
خامساً، التطوير المهني للمعلمين الذي تم التغافل عنه في هذه الفترة بسبب جائحة «كورونا» والارتباك الذي وقعت فيه المدارس، وهذا طبيعي ومبرر. وقد اقتصر التطور المهني للمعلمين على تشجيعهم على استخدام تكنولوجيا المعلومات والتواصل أكثر وهو أمر جيد. إلا أن هذه الحادثة تجعلنا ننظر إلى التطوير المهني بطريقة مختلفة تسمح للمعلمين بأن يكونوا شركاء ليس فقط في اختيار ما يناسبهم ويحتاجونه وإنما في مشاركة الخبرات والتجارب. والتطوير المهني المقبل سيعتمد حتماً على شبكات مجتمعات الممارسين communities of practice غير المحدودة بالزمان والمكان.
سادساً، الإشراف التربوي الرقمي. لعل الأدوار المدرسية الأبرز التي خفّ وهجها في الفترة الماضية هو دور الإشراف على العمليات التعليمية التعلّمية. إذ اقتصر على متابعة إعداد المواد التعليمية التي تُقدّم للمتعلمين. وإن كان ذلك جيداً إلا أنه لن يكون كافياً في المستقبل؛ فقد بتنا بحاجة إلى مقاربة إشرافية جديدة، عبر توظيف الإشراف التربوي الرقمي على عمليات التعلم والتعليم لننظم جودة التعليم ونتأكد من حسن سيره.
تحول المعرفة من «شيء نملكه» إلى «شيء نفعله»


سابعاً، اعتناق مبادىء القيادة في الأزمات Leading in emergencies، وهي نوع القيادة المطلوب أثناء هذه الأزمة. ويقتضي أن نخطط آخذين في الاعتبار أن لا شيء ثابتاً، وأن الثابت هو التغيير. نحن بحاجة إلى كتابة الخطة «أ»، ومعها مباشرة الخطة «ب». ويجب أن نخطط للعام المقبل كما لو أنه لن تكون هناك «كورونا»، ونضع خطة أخرى في حال استمرت «كورونا» (أو أية أمور طارئة تستوجب التوقف عن الذهاب عن المدرسة). كما نحتاج إلى الابتعاد عن القيادة السلطوية التي تجعل من مدير المدرسة وحاشيته الآمرين والناهين والتحول نحو القيادة التشاركية في القرارات مع المعلمين، وهم الجيش الفعلي الذي يحاربون بواسطته هذه الجائحة. لذلك يجب تشجيع المبادرات وتعزيز الثقة والاحترام معهم وألا تعتقد أي مدرسة بأنه من خلال أنظمة فرض الرأي (غير المبرر) يمكنها أن تحسّن من مستواها.
ثامناً، الاستثمار في الأهل. فكل الخطط آيلة للسقوط والفشل في حال لم يتم كسب شراكة الأهل في هذه العملية. ولعلّ أهم ما يمكن فعله في هذا السياق هو تفسير ما تقوم به المدرسة لتعليم أبنائهم. الأهالي تعلّموا تقليدياً ولعلّهم غير قادرين على استيعاب فكرة أن ولدهم يتعلّم لو أنهم شاهدوه يحمل هاتفاً جوّالاً أو يغني أمام شاشة الكومبيوتر... هذه ثقافة جديدة بالنسبة إلى الأهل ويجب أن تُفرد المدرسة خطة تواصل معهم لبناء هذه الثقافة وتعزيزها.

* أستاذة جامعية وباحثة تربوية