لم يكن الجنوبيون بحاجة إلى عودة العميل عامر الفاخوري ليتحرك مستنقع العمالة ويعيدهم 20 عاماً قبل التحرير. كل التفاصيل من حولهم في الجنوب المحرّر تذكّرهم بالعملاء؛ من صور الشهداء وأطلال مواقع العدو واللحديين إلى وجوه بعض الأقرباء والجيران والمسؤولين.للمرة الأولى منذ 57 عاماً، عادت ناهدة حميد لتقيم بشكل دائم في بلدتها الخيام. أهلها نزحوا نحو بيروت هرباً من الحرمان والاعتداءات الإسرائيلية ضد البلدة حتى احتلالها عام 1978. من دون قصد، تزامنت عودتها مع العيد العشرين للتحرير. لكن تضاعف الأعياد لا يبدّد قلق حميد من الآتي نحوها كوحش مسعور. كيف ستتعايش مع احتمال رؤية عملاء إسرائيل السابقين من أبناء بلدتها والجوار، يتنقّلون أمامها في الشارع والدكان والاحتفالات العامة؟ ذلك المشهد رأته بالفعل قبل 35 عاماً، عندما كانت الخيام تحت الاحتلال وكان العملاء ملوك الساحة يستقوون بالعدو. حينذاك، أُرسلت من قبل الحزب الشيوعي اللبناني وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية لتنفيذ مهمات أمنية ضد العدو الإسرائيلي وعملائه. ادّعت الصبية ذات الـ22 عاماً بأن أهلها أرسلوها من بيروت لتقيم في منزل العائلة وتجد فرصة عمل، بسبب الظروف الأمنية السيئة في العاصمة. بموجب مهمتها، دخلت إلى بيوت كثير من العملاء واحتكّت بهم وبعائلاتهم. كوّنت «داتا» لا تزال محفورة في ذاكرتها تشهرها بوجه من ينكر تعامله. بعد عامين، اكتُشف أمرها وزُجت في معتقل الخيام حتى خرجت بعملية تبادل حررت الأسيرات مقابل معلومة عن الطيار الإسرائيلي المفقود رون أراد. بعد تحريرها أُبعدت إلى خارج الشريط المحتل. «سأرى العملاء أمامي يتحركون بحريّة وثقة، كما كانوا تحت الاحتلال» تقول حميد بحسرة. قبل عام، خضعت لاختبار سريع عندما قابلت الكثير منهم في جنازة إحدى جارات عائلتها. «كأنّ شيئاً لم يكن. هل الناس نسوا أو تسامحوا أو قبضوا ثمن مسايرتهم لهم؟»، تتساءل. استفسارات كثيرة تجول في رأس السيدة التي أمضت سنوات مع إخوتها وزوجها في مقاومة الاحتلال.

من مشروع «عشرون» الذي يسعى لتوثيق الذاكرة البصرية المتعلقة بالتحرير. المشروع يجمع صوراً لذاكرة الأماكن وتجمعات الأهالي التي دخلت قراها إبان تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠ وصوراً لهذه الأماكن اليوم. «عشرون» مبادرة فردية شبابية قام بها المصمم الغرافيكي رواد الأمين والمصور حسن شحادي. يأمل المشرفون على المشروع جمع هذه الصور لاحقاً في معرض بعد انتهاء الوضع الراهن المتعلق بكورونا، ويدعون إلى المشاركة عبر إرسال الصور والمعلومات التوثيقية الخاصة بالمحطات التاريخية للمقاومة (عناقيد الغضب، ذكرى التحرير، حرب تموز ٢٠٠٦...)، والمساعدة في الوصول إلى شخصيات تظهر في صور أثناء هذه المحطات، على البريد الإلكتروني الخاص بالمشروع [email protected]


«وهبت وقتي ومستقبلي للمقاومة وأنا اليوم لا أملك بيتاً وأتنقل من شقة وأخرى بالإيجار حتى في بلدتي. أما العملاء فقد شيدوا مبانيَ بتعويضات نهاية الخدمة التي حصلوا عليها من العدو. ومن كان عنصراً في الجيش والقوى الأمنية قبض تعويضاً إضافياً!». لا تضمن حميد رد فعلها تجاه من «كانت ترقص وتشرب الكحول مع الجنود الإسرائيليين قبل أن تتحول إلى حاجة تتهمني بالإلحاد لأنني شيوعية». كما لا تتوقع رد فعلها تجاه من كان سجّاناً في المعتقل أو عنصراً في جهاز الأمن يوشي بالمقاومين أو حارساً على المعابر «وقد صار وجيهاً أو عنصراً حزبياً يزايد عليّ في تحريري الأرض وينزع عني فضلي في التحرير». وهي بالفعل قامت بصفع العميل السابق عبد العزيز ض. عندما التقت به للمرة الأولى بعد عدوان تموز. «رددت له الصفعة التي سدّدها على وجه أبي بعد اعتقالي عندما وبّخه لأنه لم يحسن تربيتي» قالت بفخر. تستطرد قائلة: «هذا فشة خلق. شو طالع باليد؟». تستذكر أحد أبناء الخيام عندما التقى صدفة بابن بلدته العميل رياض العبدالله قبل سنوات في الإمارات العربية المتحدة. «أبلغ السلطات عن المطلوب غيابياً بجرم العمالة ودخول أراض العدو. قبل أن يتلقى بعد مدة قصيرة أمر ترحيله».
إشكالية العلاقة بين العملاء ومجتمعاتهم تزداد تعقيداً في القرى الشيعية التي شهدت عمليات انتقامية ضدهم عقب التحرير من حرق سيارات وبيوت وممتلكات دفعت بالبعض إلى تأجيل عودته إلى بلدته. هدأ الانتقام على مر السنوات لكن النفوس لم تهدأ، ولا سيما ممن لحق به أذى مباشر. لكن تشريح المجتمع المحرّر يظهر تبايناً في التعاطي مع العملاء بين رفض مطلق وبين تعايش بنية عفا الله عما مضى أو بنية المنفعة. أبرز أسباب تلك الإشكالية، انخراط بعض أقرباء العملاء في حزب الله. «كيف نتعامل معهم؟» كثر لم يتصالحوا مع الأمر. لا يتوانى البعض عن الإشارة إلى أحد الأشخاص بمناسبة أو من دونها بأنه «كان عميلاً». في الخيام، تتصدر عند أحد مداخلها صورة شهيد القنيطرة الجولانية. لمن لا يعرفه، يتبرع أحدهم للتعريف به: «الشهيد غازي ضاوي حفيد العميل غازي ضاوي أحد أركان جيش العملاء في المنطقة». صلة يجدها البعض إنجازاً للمقاومة التي غيّرت في الناس، ولم تتعامل مع عائلات العملاء بجريرة ما ارتكبه بعض أفرادها. أصلاً، ثمة تعقيد اجتماعي. العملاء لم يكونوا فئة معزولة تماماً داخل المجتمع. والتداخل العائلي جعل في العائلة الواحدة أحياناً عملاء ومقاومين. أحد المقاومين مثلاً، وشى به شقيقه العميل لجهاز أمن العملاء قبل التحرير. قضى المقاوِم سنوات في سجن الخيام.
في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة في إحدى بلدات قضاء صور، فاز أحد العملاء السابقين بمنصب مختار إثر انسحاب مرشحي حزب الله وحركة أمل. يجزم البعض بأنه لم يكن لينجح بتصويت الناس، فيما يقر آخرون بالفئة التي تقبّلته، وخاصة أنه كان «عميلاً مزدوجاً». «للأسف هم جزء من مجتمعاتنا الصغيرة المتداخلة بالنسب والقرابة قبل أن تأتي الأحزاب والأجهزة الأمنية وتروّجهم بيننا بحلتهم الجديدة ذات السجل العدلي النظيف» قال أحد المقاومين من البلدة. قبل التحرير بسنوات، كان هذا المقاوم يتولى مهمات داخل الشريط المحتل. شارك في العامين الأخيرين قبل التحرير، بـ«توصيل رسائل» إلى العملاء «تنصحهم فيها المقاومة الإسلامية بالتوبة ومساعدتها لدحر الاحتلال». كما لعبت استخبارات الجيش اللبناني دوراً مماثلاً. وصلت «الرسائل» إلى عملاء كبار. لكن منهم من رفض ومنهم من استجاب وفرّ إلى الجانب المحرر ومنهم من صار «عميلاً مزدوجاً» ساهم بإنجاح عمليات مهمة ضد قوات الاحتلال وميليشات العملاء. بعض «العملاء المزدوجين» هم في الفعل مقاومون، تحمّلوا مخاطر مضاعفة لإنجاح العمليات ضد الاحتلال. لكن، يقر المقاوم بأن «العميل المزدوج» شماعة استخدمها البعض لمنح عملاء أسباباً تخفيفية أمام القضاء.
تخفّ حدة تلك الإشكالية في القرى المسيحية لاعتبارات عدة أبرزها رعاية حزب الله وحركة أمل والجيش لها منذ لحظات التحرير الأولى، لئلا يتعرض أحد أبنائها للمضايقة. في إحدى قرى مرجعيون، أصبح أحد أبرز العملاء رئيساً للبلدية ويملك صداقات وطيدة مع الجوار. هناك، تسمع علانية دعوات لحل أزمة «الشباب الذين حموا قرانا بعد أن تركتنا الدولة وكانت إسرائيل من أمامنا والفلسطينيون من ورائنا». والبعض يشير إليهم بصفة «الجنوبي» نسبة إلى «جيش لبنان الجنوبي» التسمية التي أطلقتها ميليشيات العملاء على نفسها.
في جميع البلدات الجنوبية، لا نجد من يوافق على الحديث عن تجربته في «جيش لبنان الجنوبي»، برغم أن كثيرين يساعدوننا بالاستدلال على بعضهم. في الجلسات المغلقة، نسمع أحياناً من يبرر التعامل مع قوات الاحتلال: «التجنيد الإجباري وتهديد الأهل وابتزاز الأمهات والأخوات والخوف والحرمان من الدولة ورخص المواد ورغد العيش بسبب دخول البضائع من فلسطين المحتلة من دون جمرك».
بعض «العملاء المزدوجين» هم مقاومون تحمّلوا مخاطر مضاعفة لإنجاح العمليات ضد الاحتلال


حوالى 6500 عميل وعائلاتهم فرّوا بعد اندحار العدو الإسرائيلي. عاد منهم المئات ولا سيما في الأشهر الأولى التي أعقبت التحرير بسبب التطمينات التي قدمها حزب الله والدولة. فيما بقي في فلسطين المحتلة حوالى 3 آلاف شخص وغادر العشرات من هناك إلى أوروبا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج وافريقيا. وهؤلاء ممن تلطّخت أيديهم بالدماء والتعذيب على غرار عامر الفاخوري. أكثر من 3 آلاف عميل خضعوا للمحاكمة غالبيتهم كانت أحكامهم خفيفة لم تتعدّ الثلاث سنوات.
حالياً وبالتزامن مع العيد العشرين للتحرير، يبحث مجلس النواب شمول العملاء بقانون العفو العام وفق آلية عودة تحيل المتورطين منهم إلى المحاكمة مع العفو فقط عن جرم دخول أراض العدو. آلية تشكّل المرسوم التطبيقي لقانون «عودة اللبنانيين من إسرائيل» الذي أقره مجلس النواب عام 2011. عودة جزار الخيام خضّت البلاد، فكيف إذا عاد جزّارو أنصار ويارين والجبين وراشيا الفخار؟ تغرورق عينا مايا نهرا عند سماعها سيرة العملاء. لا تتقبّل أي عذر للتعامل أو العفو. ابنة إبل السقي عاشت مع إخوتها في كنف إدمون نهرا تحت احتلال 22 عاماً. «ضحّى برزقه وصحته ومستقبل أبنائه لكي لا يطلب التصريح الأخضر من الإدارة المدنية للانتقال خارج الشريط المحتل. حجر أبو خالد نفسه في بلدته التي لم يخرج منها إلا اعتقالاً لحوالى 40 مرة منها في حيفا. عندما كان في الثلاثين من عمره، ضربه أحد الجنود بكعب البارودة على فمه، فكسّر أسنانه. ولم يرض طلب تصريح الخروج لكي يصلحها». أحد رموز جبهة المقاومة الوطنية وبرغم وجوده في قلب الخطر «لم يتعامل ولم يلتزم الحياد. صدح عالياً بوجه المحتلين وعملائهم: أنا شيوعي ومقاوم أرفض وجودكم وستخرجون» قالت ابنته.