فصلٌ آخر من فصول السيادة المنقوصة، تسجّله الدولة اللبنانية، منذ عام 2015، على الأقل، في إهمال قضيّة السفن التاريخية الغارقة في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، والتي عثرت عليها سفينة «صيّادة كنوز» عام 2010. فالدفاع عن الحقوق في مسائل من هذا النوع، ليس لأجل ثروةٍ إنسانية ولا مصدراً اقتصادياً مهماً للبنان الغارق في انهياره فحسب، إنما مسألة سياسية سيادية.بعد سقوط طائرة الركاب الإثيوبية قبالة شواطئ الناعمة جنوبي بيروت قبل 10 سنوات، كانت سفينة الأبحاث Odyssey Explorer، تقوم بأعمال استكشاف تحت الماء لمصلحة شركة بريطانية تدعى Recoveries Enigma. عرضت السفينة المساعدة على لبنان في البحث عن حطام الطائرة، عبر وكيلها آنذاك وليد النعوشي. إلّا أن قصد الشركة من «المساعدة الإنسانية» للبنان، سرعان ما انكشف، بعد ملاحظة أكثر من جهة، أن السفينة تبحث بشكل مريب في أماكن بعيدة عن مكان سقوط الطائرة الفعلي. بعد فترة قصيرة، بدأ التداول بأخبارٍ حول اكتشاف السفينة مواقع لحطام عشرات السفن، تقبع بغالبيتها على عمق حوالي 2000 متر تحت سطح الماء، بينها سفينة يونانية واثنتان رومانيتان وواحدة أموية وثماني سفن عثمانية! ما يعني وجود «متحف» غائر تحت المياه اللبنانية، ربّما يوازي بأهميته اكتشاف النفط والغاز.

(مروان طحطح)

سفينة «الأبحاث» التي تحمل علم الباهاماس سبق لها أن حاولت سرقة محتويات سفينة إسبانية غارقة أمام البرتغال منذ عام 1804، بموجودات ذهبية وفضيّة تساوي حوالى نصف مليار دولار، قبل أن تستعيدها إسبانيا وتغرّم محكمة أميركية الشركة مليون دولار كتعويض لمدريد. وهي وقعت مرّة جديدة في قبضة السلطات القبرصية، عام 2015، عندما ضُبطت تحاول تهريب قطع أثرية منتشلة من تحت الماء في أحد المرافئ، بينها 360 قطعة من الخزف الصيني، تم إخراجها من إحدى أكبر السفن العثمانية بطول 43 متراً، وتعود إلى عام 1630 حين غرقت في رحلة بين إسطنبول والإسكندرية. ونتيجة التحقيقات، تبيّن أن هذه القطع تم انتشالها من حطام بعض السفن الغارقة ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، وفقاً لما قالته Enigma، التي عادت قبل أسبوعين وأكّدت في بيان صحافي أن السلطات اللبنانية على علم بذلك. وبالتالي، تطالت الشركة حالياً السلطات القبرصية باستعادة القطع الأثرية كونها لم يتم انتشالها من المياه القبرصية. وتتذرّع بأن عملية المصادرة تمت عام 2015 جراء «خطأ إداري» يتعلق فقط بعدم التصريح الجمركي حول هذه القطع التي عثر عليها القبارصة على متن «أوديسي».
وفيما يسود الصمت في بيروت، سأل البروفسور ماريانو أنزار، أستاذ القانون الدولي في جامعة «Jaume in Castello de la Plana» الإسبانية، ضمن تحقيق نشرته «سايبرس ميل»: «(إذا كان ما تقوله الشركة صحيحاً) فلماذا لم تتحرّك السلطات اللبنانية؟». ولفت الى أن «الدول المطلة على الشطآن تملك كامل السيادة في مناطقها البحرية، ولها هي حقوق البحث والتنقيب في هذه البقع ومراقبة أي نشاط يتناقض مع سيادتها». وختم: «أفترض، أن السفينة عندما كانت تنقّب في المياه اللبنانية، ساءلتها السلطات اللبنانية عمّا تفعل. هل فعلوا ذلك؟ لا نعرف». ليس أنزار وحده من لا يعرف، اللبنانيون أيضاً لا يعرفون موقف سلطاتهم من هكذا مسألة سيادية خطيرة.
وأمام هذه المعطيات، تطرح مجموعة من الأسئلة، حتى لا تبقى هذه القضيّة مهملة:
أوّلاً: ما هي صحة المعلومات عن معرفة الدولة بنشاط «أوديسي»، وهل استحصلت السفينة على ترخيص للقيام بأعمال البحث وانتشال القطع الأثرية عام 2015 من السلطات اللبنانية؟ ومن أعطى الإذن بذلك: المديرية العامة للنقل البري والبحري أم المديرية العامة للآثار؟ وإذا تم إعطاء الإذن فعلاً، ألا يخالف ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولا سيما المادة 303، واتفاقية اليونيسكو، بشأن حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه، واللتين تدعوان إلى حماية هذه الآثار المغمورة تحت الماء بدل تركها لسفينة تسرق آثار الشعوب وتبيعها بالجملة والمفرّق؟
ثانياً: هل تم التواصل مع السلطات القبرصية لمتابعة الموضوع؟ ومن هي الجهة التي تقوم بالتواصل حالياً؟ وهل السلطة السياسية الحالية على علم بما يحصل لناحية محاولة شركة Enigma حالياً استعادة القطع الآثرية، وما هو الموقف من دخول تركيا على الخط، بعدما بدأت تطالب بحقوق لها في القطع، بما أنها انتشلت من حطام سفينة عثمانية؟ وأخيراً، هل سيتحرك القضاء ووزارة الخارجية؟
ثالثاً: ما هي الإجراءات المتخذه أو الواجب اتخاذها لمنع حصول مثل هذه التعديات على التراث المغمور في المياه ضمن السيادة الوطنية اللبنانية، وهل يتم التنسيق مع اليونيسكو في هذا الشأن؟
رابعاً: هل ستتم مقاضاة Odyssey Explorer وEnigma في حال ثبت أن القطع انتشلت من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، من دون إذن شرعي بذلك؟
خامساً: هل سيتم العمل على استعادة هذه القطع الأثرية والمحافظة عليها وفقاً لأحكام اتفاقية اليونيسكو بشأن حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه، بما أن لبنان من الدول التي وقّعت على هذه الاتفاقية؟ أم أنها ستجد طريقها إلى السوق السوداء أو المتاحف الخاصة، كما حصل مع القطع التي سرقت من سوريا والعراق في السنوات الأخيرة أو تلك التي سرقتها الدول الاستعمارية من المشرق ومصر وتعرضها الآن في متاحف لندن وباريس ونيويورك؟
تدّعي الشركة البريطانية أن السلطات اللبنانية على علم بانتشالها كنوزاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة


سادساً، هناك معلومات غير مؤكدة تفيد بأن لبنان كان قد كلّف في ما مضى مكتب محاماة في ليماسول لمتابعة الملفّ. وفي حال صحة هذه المعلومات، وجب السؤال عمّا هو مستند التكليف؟ ومن يقوم بدفع الأموال لهذا المكتب، وما هي النتيجة الي توصل إليها؟ وهل يُتابع الموضوع من قبل وزارة محددة؟ هل هي وزارة الثقافة عبر المديرية العامة للآثار كون الموضوع يتعلق بقطع أثرية، أم وزارة الأشغال العامة والنقل عبر المديرية العامة للنقل البري والبحري، كون الموضوع يتعلق بالمياه اللبنانية، أم وزارة العدل كون الموضوع قضائياً أو وزارة الخارجية؟ والأهم من ذلك كله، أن لا تكون كل وزارة تتّكل على ما تفترض أن زميلتها تقوم به، بما يضيع حقوق اللبنانيين، السابقون منهم والحاليون والمقبلون!
إن قضيّة من هذا النوع تسـتأهل أن تكون على جدول أعمال أول جلسة لمجلس الوزراء، ويمكن تكليف المديرية العامة للآثار سريعاً متابعة الأمر مع اليونيسكو، والتحرّك قضائياً ودبلوماسياً بالتوازي.