لم يكشف الانهيار الاقتصادي أو أزمة الدولار أو حتى تطوّرات أزمة كورونا جديداً، حين تعرّى النظام الغذائي اللبناني، زراعياً وصناعياً، ووقف اللبنانيون على أبواب الجوع. فالبلد الذي يستورد 92% من طعامه وشرابه، معدوم السيادة الغذائية. وهو، تالياً، مسلوب الإرادة الوطنية أمام أيّ حصار أو اهتزاز، مهما راكم من أسلحة، ومهما قدّم من تضحيات.تلك السياسة، إماتة الزراعة تحديداً، ليست بريئة، أو نتاج سياق طبيعيّ. إنّما عقليّة طوّرها أمراء الطوائف ورؤساؤهم الدوليون (على تبدّلهم في كلّ مرحلة)، لتحويل لبنان إلى بلد استهلاكي، فتسهل إدارته مللاً وجماعات مرتبطة باقتصاد وهمي. وتظهر الجريمة أعظم، حين تتكامل مظاهر الانهيار، البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطائفية، في أزمة النفايات التي تكبر بآلاف الأطنان يومياً. ومع كلّ طن، تزداد عصبيّات الطوائف وطروحات الفيدرالية.
الآن انفجر النموذج (متأخراً لعقود). الجوع يسابق النفايات. والحلول، إن وُجدت، كما في الخطط الزراعية والصناعية وخطّة إدارة النفايات وغيرها من المسائل، فإنّها حلول (عدا عن الاختلالات التي تعانيها) منفصلة ومجزّأة عن الحلول في قطاعات أخرى، لأنّ القيّمين عليها (بحسن نيّة؟) يجزّئون الأزمات في الأصل. وهذا النمط من التفكير يناقض كلّ منطق التنمية المستدامة بتكامل الحلول التي تحتاج إليها البلاد لانتشالها من المصير البائس.
مليون دولار قيمة الخسائر اليومية المباشرة جرّاء عدم تسميد المواد العضويّة


إحدى أبرز أزمات القطاع الزراعي اليوم هي الغياب شبه الكامل للإنتاج المحلي للأسمدة، وحاجة السوق إلى استيراد السماد الكيميائي أو العضوي، في ظلّ انخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار، والعقبات التي تواجه خطوط الإنتاج والتصدير في الدول المنتجة بسبب «كورونا».
من عام 2011 إلى عام 2015، بلغ معدّل سعر طن السماد العضوي المستورد حوالى 271 دولاراً، بحسب قاعدة المعلومات التابعة لإدارة الجمارك، ناقص كلفة النقل إلى المناطق وربح التجار. استورد لبنان في هذه الفترة 64715 طناً من السماد العضوي، ما يعادل حوالى 100 ألف طن من النفايات العضوية أو روث الحيوانات، أي ما قيمته حوالى 17.5 مليون دولار، خرجت من لبنان إلى غير رجعة. وبين عامي 2016 و2019، بلغ استيراد لبنان من السماد العضوي 55045 طناً، بمعدّل 247 دولاراً للطن الواحد، أي ما يعادل حوالى 13.6 مليون دولار. وسجّل أعلى رقم لسعر الطن الواحد المستورد في عام 2019 بـ272 دولاراً. والأسوأ، أن أرقام استيراد الأسمدة الكيميائية التي تسمّم الغذاء والبيئة، مخيفة، وتبلغ مئات ملايين الدولارات في السنوات العشر الأخيرة وحدها!
في المقابل، وبحسبة بسيطة، يرمي اللبنانيون يومياً بين 3.5 و4 آلاف طنّ من النفايات العضوية من أصل 5 إلى 7 آلاف طنّ نفايات (الحساب الدقيق أمرٌ شاقّ في قطاع النفايات لغياب الأرقام الدقيقة)، أي ما يزيد على 2000 طن من السماد العضوي! وبالتالي يخسر اللبنانيون يومياً: 2000 × 272 = 544 ألف دولار (من دون احتساب كلفة التصنيع طبعاً). وفوق ذلك، يُكلّف طمر كلّ طن نفايات 150 دولاراً، بحسب آخر رقم متداول. وبالافتراض أنه يتم طمر 3000 طن (بعد تجفيفها؟) من النفايات العضوية وحدها، تبلغ الكلفة: 3000 × 150= 450 ألف دولار، تضاف إلى 544 ألف دولار، لتبلغ قيمة الخسائر اليومية المباشرة حوالى مليون دولار جرّاء تغييب تسميد المواد العضوية. هذا طبعاً عدا عن التدمير البيئي الذي يلحق بالمياه والشواطئ والحياة البريّة في الحوض اللبناني، والأمراض والأزمات الصحّية التي تصيب اللبنانيين من سكان الساحل والمدن الكبرى.

تجربة بيت مري
الأرقام أكثر دقّة في معمل التسبيخ وإنتاج السماد العضوي في بلدة بيت مري في المتن الشمالي. تلك التجربة التي أثبتت أن الحلول ممكنة، بشرط أن تكون متكاملة، بدأت ضمن خطّة محليّة لحلّ أزمة النفايات في البلدة، بالتعاون بين البلدية والمهندس البيئي زياد أبي شاكر.
تؤكّد أرقام الدراسة التي أُجريت في بيت مري على عيّنة زمنية من أربعة أسابيع بين شباط وآذار 2020، في أربع نواحٍ مختلفة من البلدة، حيث تتنوّع مصادر النفايات بين المحالّ التجارية والمنازل، أن كل 2400 كيلوغرام من النفايات تحتوي على 1880 كيلو بقايا عضوية، أي ما نسبته 78% من المجموع! وتضمّ تلك النفايات التي تستطيع تقنيات المعمل تحويلها إلى سماد: بقايا الأطعمة المطبوخة والنيئة والكرتون والأوراق (من بقايا الأطعمة) والأوراق الصحّية وحفّاضات الأطفال وموادّ أخرى من بقايا الخُضَر.
لكي يتمّ احتساب كلفة الطن الواحد من السماد العضوي المصنّع محليّاً، يبدأ البحث من كلفة المعمل، الذي يضم: مركز فرز ومركز ضغط لتخفيف حجم المواد المفرزة، ومركز تخمير ضمن منظومة متكاملة.
تبلغ كلفة معمل بقدرة على استيعاب 25 طناً من النفايات، حوالى مليون دولار للبناء والتجهيز. وتنقسم الكلفة التشغيلية شهرياً إلى: رواتب 20 موظفاً، ثمن 5000 ليتر من المازوت، وما بين 2500 إلى 3000 دولار صيانة ماكينات. على نتائج حسابات تجربة بيت مري، ينتج 25 طناً من النفايات 18 طناً من المواد العضوية، وتخسر 45% من وزنها بعد التجفيف، لتنتج 10 أطنان يومياً من السماد العضوي المتوسّط الجودة. وإذا احتسبنا أن ستّة عمّال في المعمل يتولّون قسم التخمير والتسميد بكلفة افتراضية هي 6000 مليون ليرة (مليون راتب كلّ موظف) و900 دولار كلفة صيانة ماكينات التخمير و1500 ليتر من المازوت، ثم جمعنا الكلفة الشهرية (6 ملايين + مليون و350 ألفاً على سعر صرف 1500 بدل صيانة + مليونين و250 ألفاً كثمن تقديري للمازوت= 9 ملايين و600 ألف ليرة). أي إن كلفة الطن الواحد التقديرية 37 ألف ليرة لبنانية، بقسمة 9 ملايين و600 ألف ليرة على 260 طناً شهرياً (بمعدل إنتاج 26 يوم عمل مقابل 10 أطنان يومية)! طبعاً لا بدّ من إضافة الكلفة التأسيسية لوحدة التخمير في المعمل. لكن بسبب تقلّب الليرة أمام الدولار، يصعب احتسابها الآن. واستناداً إلى سعر الصرف القديم، لن تتجاوز كلفة الطن الواحد 66 ألف ليرة. وفي حال إضافة روث حيوانات من دجاج أو خيل أو بقر إلى السماد، كما يفعل معمل بيت مري لرفع جودته، فإنّ الكلفة الإجمالية تبقى أربع مرات أقلّ من أيّ طن مستورد سواء من السماد العضوي أو أقلّ أيضاً من تكلفة استيراد الأسمدة الكيميائية، وأقلّ كلفة بأضعاف من طمر طن نفايات!
والعجيب أن أزمة معمل بيت مري تبقى، مع كل الحيرة التي تعانيها البلاد في معالجة نفاياتها، في عدم قدرة المعمل على تأمين 25 طناً من النفايات يومياً... لمعالجتها! مع أن المشروع يضمّ إلى جانب بيت مري بلدات صغيرة في محيطها، مثل زندوقة وقرطاضة.
ولا تسمح حلول متكاملة مثل معمل بيت مري بتطوير القطاع الزراعي على كل المستويات وتحسين جودة الأغذية والتخفيف من السموم والأضرار البيئية المباشرة فحسب، بل أيضاً في كساء الجبال اللبنانية التي تصيبها عوامل التعرية وتحوّلت الآن إلى جرود صخرية، إذ يمكن من ضمن المشروع المتكامل، أن تقوم وزارة البيئة بالتعاون مع الوزارات الأخرى، بتغطية مساحات شاسعة من الأراضي الجردية بالأسمدة العضوية، لإعادتها إلى الحياة، فتخلق دورة بيئية جديدة توقف انجراف الأتربة من السلسلتين الشرقية والغربية نحو سهل البقاع، الذي يبلغ عمق الأتربة فيه حوالى 300 متر.
هذا لا يعني دعوة اللبنانيين إلى الاستمرار في إنتاج معدّلات مخيفة من النفايات بفعل النمط الاستهلاكي، إذ أن أيّ حلّ يعتمد على قرارات على مستوى السلطة أو الحكومة، لكنّه بذات القدر يعتمد على قناعة المواطنين بتغيير أنماط العيش وتخفيف استعمال المواد غير اللازمة، كأكياس النايلون في التبضّع وغيرها الكثير من السلع المفروضة.