أمر آخر يعرفه خصوم الحكومة الحالية من عتاة النظام الفاسد، وهو أن قتالهم اليوم دفاعي فقط. وهو قتال لا يقود الى تغييرات نوعية يريدها الجمهور. يعرف ثلاثي المعارضة (الحريري، جنبلاط وجعجع) أن من يقدر على إطاحة هذه الحكومة، يجب أن يأتي وفي جيبه مليارات الدولارات، وعينة جديدة من المسؤولين. وهذا غير متوافر لدى هؤلاء، وليس وارداً في أجندة مرجعياتهم الاقليمية والدولية. أصلاً، لم يعد بمقدور هؤلاء إقناع السعودية وأوروبا وأميركا بإنفاق دولار واحد تحت عنوان «مواجهة حزب الله»، بعدما تعب ممثلو المرجعيات الإقليمية والدولية من كذب جماعاتهم في لبنان ونفاقها وفشلها. ووصل الأمر حد مباشرة الإدارة الأميركية، ومعها الأوروبيون والعرب أيضاً، نقاشاً حول ضرورة استبدال هؤلاء الحلفاء بآخرين. وهنا، يجب التدقيق في طبيعة تركيز هذه المرجعيات الخارجية على من يطلق عليهم «ناشطي الحراك» في لبنان.
كثيرون يعرفون أن في دوائر الغرب من يطرح بجدية، وبإلحاح، ضروة السير في تغيير شامل لآليات العمل وللأدوات أيضاً، سواء كانت شخصيات أم أحزاباً أم حتى وسائل إعلامية. بهذا المعنى، يعرف الثلاثي المعارض أنه ليس بمقدوره إعادة إنتاج الطبقة نفسها من الممثلين في إدارات الدولة. لا يوجد في كتلهم النيابية، مثلاً، اسم واحد يحظى باحترام الجمهور. الحريري وجنبلاط يكادان يستسلمان لعدم القدرة على استيفاء جهود إضافية من جيل القيادات التي عملت معهما. أما سمير جعجع، فقد وصل الى خط النهاية في لعبة استعارة شخصيات من خارج قياداته العملانية، فكيف وهيكليته التنظيمية تجتر نفسها سنة بعد سنة وجيلاً بعد جيل.
الحريري وجنبلاط وجعجع فشلوا في إقناع أحد بقدرتهم على تغيير يحظى بدعم اللبنانيين
هذا الواقع، يمكن عكسه بطريقة مختلفة، لكن في الوجهة نفسها، على القسم الآخر من المحتجين. صحيح أن غالبية الناشطين رفضوا فكرة القيادة الموحدة للانتفاضة لأنهم لا يقدرون على التنازل، بعضهم لبعض، لكن المشكلة أن هؤلاء استهلكوا قدراتهم سريعاً. صار بالإمكان سريعاً تخيُّل ردّ فعلهم على أيّ حدث يحصل: كيف يستغيثون بوسائل التواصل الاجتماعي للصراخ والتعبئة. وكيف يجهدون لحشد عشر ما كانوا يقدرون عليه قبل أشهر. وكيف يعانون من ضيق الأفق إزاء الحلول. أخطأ هؤلاء عندما اعتقدوا أن المعارضة مهنة يعتاشون منها. رفضوا الإقرار بأن المعارضة، في بلد كلبنان، لا تعيش وتنمو إذا لم يكن بمقدورها عقد التسويات في اللحظات الحرجة. وهؤلاء يرفضون اليوم الإقرار، أيضاً، بأن الإعلام لا يصنع ثورة حقيقية. الإعلام يساعد على انتشار فكرة، لكنه في بلد كلبنان لا يقلب الطاولة فوق رأس أحد. فكيف والإعلام هو جزء من هذا النظام وجزء من المشكلة، وأي إصلاح حقيقي يجب أن يشمله بقسوة أشد من مواقع أخرى في البلاد. هذا عدا عن الثغرة الهائلة في نشاط غالبية مجموعات الحراك، والمحددة بالتمويل الخارجي لهم عبر منظمات غير حكومية، أو مسارب دعم يعود أصلها الى حكومات الغرب.
هذه الصورة قد تكون مفيدة لحكومة حسان دياب حتى لا يخشى انقلاباً وشيكاً عليه، لكنها تتحول الى عبء متى تأخر دياب وفريقه في طرح الخطوات العملانية لمعالجة مشكلات مختلفة. ليس بين اللبنانيين من ينتظر السحر. لكنّ هناك اقتناعاً بأنه يمكن تحقيق الكثير في مواجهة مافيات النظام. والاساس هو الطرق بانتظام على رؤوسهم. وهو طرق يؤتي ثماره إن أحسنت الحكومة خلق تواصل منطقي مع قسم كبير من الشارع الغاضب. اليوم، يمكن لحسان دياب أن يخاطب جمهور الغاضبين على أنهم شركاء لا خصوم له. وردود الفعل الشعبية على خطاباته دليل على إمكانية حصول ذلك. لا يحتاج الرجل الى أدوات تقليدية في معركة غير تقليدية. ولا يحتاج على الإطلاق الى مراعاة كل أنواع الحسابات الطائفية والمذهبية والمناطقية والجهوية. بل على العكس، يحتاج الى ما يثير غضب كل اللاعبين التقليديين.
ليس أمام دياب وفريقه سوى التفكير دائماً بطريقة مناقضة لما كان قائماً. وكل خطأ يقع، ستكون كلفته أقل بكثير من إعادة تكرار المشهد نفسه. والسؤال هو: كيف يمكن إقناع دياب بأنه يملك قوة لا تقل فعالية عن قوة كل شركائه في الحكم اليوم. وهي قوة تمكّنه من المواجهة والمناورة، ولا تتطلب منه المغامرة أو الانتحار!