«المصارف الزومبي»، مُصطلح يُستخدم لتوصيف تلك التي تجد صعوبة في الاستمرار من دون الدعم الذي تُقدّمه لها حكوماتها. هي «مؤسّسات مُتعثّرة، وستظلّ في وضعية مالية هشّة، حتى لو حصل تعافٍ على مستوى الاقتصاد العالمي... في كثيرٍ من الحالات، يكون المصرف وغالبية زبائنه المستدينين في حالة تعسّر وإفلاس، ما يعني أنّ من غير المرجّح أن تقوم هذه المصارف يوماً باستعادة القروض التي أصدرتها» (من مقالة أليكس جونز في «انترناشيونال بانكر» سنة 2017). بعد كشف الخسائر التي يحملها مصرف لبنان، يُمكن تطبيق الكلام نفسه عليه. فـ«المركزي»، بقيادة «زعيمه» رياض سلامة، يُعاني من خسائر مُدوّرة (أي مُتراكمة) تُساوي أكثر من 30% من مجمل ميزانيته. المستشار المالي للحكومة اللبنانية، شركة «لازار»، كشفت ذلك وقد ورد في مسودة الخطة المالية التي تُناقشها الحكومة بأنّها تفوق الـ 40 مليار دولار، مع صعوبة تعويضها بمداخيل مُستقبلية. يعني أنّ المصرف المركزي في وضع مالي هشّ ويصعب عليه تحقيق الربح، تماماً كما يُعاني زبائنه (المصارف، مؤسسات الدولة...) من حالة إفلاس أو تعثّر. ألا يقود ذلك إلى أنّ «المركزي» هو، ولو مجازياً، «مصرف زومبي»؟
يقول بطيش إنّ خسائر «المركزي» المؤجّلة سيتمّ تحميل كلفتها للأجيال المقبلة (هيثم الموسوي)

إجراءات المصارف غير القانونية في التعامل مع المودعين، والتواطؤ بين ثلاثي السلطة السياسية ــــ المصرف المركزي ــــ المصارف، أدّت إلى بدء تبلور ردّة فعل شعبية ناقمة كان لها انعكاساتها على بعض إجراءات الحكومة كالتدقيق في حسابات المصرف المركزي، فأتت النتيجة في الصفحات 16 و17 و18 من مسودة «الإصلاح المالي»، ويرد فيها أنّ «الاعتراف بالخسائر السابقة التي تراكمت على مصرف لبنان، والخسائر المتوقعة بعد إعادة هيكلة الديون السيادية، هي الخطوة الأولى في الإصلاح الشامل للنظام المالي اللبناني». وتُشير الخطّة صراحةً إلى أنّ الخسائر التي تتناولها، تعود إلى قرابة الخمس سنوات الماضية، وهي غير خسائر «المركزي» التي قد تنتج من إعادة هيكلة الديون. الخسائر المُدوّرة (المُتراكمة) تُرحّل في مُقابل إيرادات مستقبلية، «هذه الممارسة المحاسبية شائعة في البنوك المركزية حول العالم، لكن يتم اللجوء إليها للتعامل مع خسائر مؤقتة مُتكبدة أثناء الأزمات». في حين أنّ مصرف لبنان طبّقها على مدى 15 إلى 20 عاماً، «وبات يُمثّل إجمالي الخسائر لديه أكثر من 40 مليار دولار أميركي، وهي تفوق نسبة الـ 100% من الناتج المحلي الإجمالي»، وبالتالي الحالة اللبنانية «لا تُقارن بأي حالة أخرى في العالم».

ما هي خسائر البنك المركزي هذه، وكيف تكوّنت؟
ينطلق وزير الاقتصاد السابق، منصور بطيش، في حديثه مع «الأخبار» ممّا أُدرج في ميزانية مصرف لبنان تحت بند «أصول أخرى»، وتضمّ مبلغ 47 ملياراً و990 مليون دولار أميركي (يرد في الميزانية أنّ المبلغ يتضمن العمليات في السوق الحرّة، والفرق بين القيمة الاسمية للعملات المعدنية وتكاليف إنتاجها)، الذي يدلّ على الخسائر، موضحاً وجود فرق «بين الخسائر التي تحدّثت عنها شركة لازار ووردت في الخطة المالية، وبين النقص بالعملات الأجنبية والذي يبلغ قرابة الـ 50 مليار دولار»، وهي المبالغ التي أهدرت من أموال المودعين الخاصة.
يقول أحد الذين عملوا على التدقيق بأرقام مصرف لبنان إنّه «لا يوجد رقم دقيق للخسائر، لأنّ ما تمّ كشفه هو استناداً إلى المستندات التي سلّمها سلامة، بالتقسيط، لكلّ واحدة من المرجعيات الرسمية». لذلك، «جرت المطالبة بإجراء تدقيق مالي استقصائي لكشف الأرقام الفعلية».
كُتب في الخطّة المالية أنّ خسائر المصرف المركزي هي تعبير عن «سنوات من المعاملات المالية الخاسرة التي أدارها، وتسارع تراكمها مع الهندسات المالية التي بدأت سنة 2016». يتلاقى ذلك مع التقديرات التي يُشير إليها مصرفيون واختصاصيون لـ«الأخبار» بأنّ:
ــــ الجزء الأكبر من الأموال، أهدرها مصرف لبنان على الهندسات المالية، 12 مليار دولار تقريباً، وكانت تتم العملية عبر «طلب المركزي من المصارف إيداع أموال جديدة لديه، مُقابل إقراضهم بالليرة اللبنانية بفائدة مُتدنّية، ثمّ يدعو المصارف إلى الاكتتاب بشهادات إيداع ويدفع لهم فوائد عالية».
ــــ دفع «المركزي» فوائد مرتفعة جدّاً للمصارف حتى تضع أكثر من 54% من أموال المودعين لديه، فيتمكّن من امتصاص الأموال بالعملات الأجنبية. كما استخدم «المركزي» الدولارات التي يملكها لتغطية عمليات دمج المصارف.
ــــ كان سلامة يتفق مع المصارف على ألا تشتري سندات خزينة (سندات إقراض الدولة) تُصدرها وزارة المال، مُغرياً إياها بإيداع الأموال في «المركزي»، على أن يدفع عليها فائدة أكبر من تلك التي كانت ستدفعها وزارة المال، ثمّ كان يعمد هو إلى شراء سندات الخزينة بالأموال التي وضعتها المصارف لديه. هذا الفارق في الفوائد والربح غير المشروع للمصارف، كان يدفعه «المركزي»، ويُقدّره الخبراء بحدود الـ 10 مليارات دولار.
ــــ دُفع للمودعين غير المقيمين فوائد بحدود 36 مليار دولار. يقول منصور بطيش إنّ الخسارة هنا حصلت حين كان يتم كلّ عام سحب 3 مليارات دولار منها إلى الخارج.
ــــ تغطية العجز في الميزان التجاري.
ــــ حَمل عبء القروض المدعومة المُتعثرة.
ــــ الخسارات في الليرة التي تبلغ قرابة الـ 2 مليار دولار.
ــــ رفع «المركزي» أسعار الفوائد كثيراً ليُحافظ على استقرار العملة، ويمتصّ المزيد من الودائع. هذه الخسارة أصابت الاحتياطي بالدرجة الأولى، قبل أن يشمل تأثيرها الميزانية.

«الكهرباء» ليست خسارة!
ماذا عن القروض لقطاع الكهرباء، التي يستخدمها «حزب» سلامة كجزء من «تبرير» الخسائر؟ ينفي بطيش أن تكون قروض قطاع الكهرباء قد شكّلت عبئاً كبيراً على الميزانية، «فأكثرية المدفوعات بالليرة اللبنانية»، ويُضيف أحد المُطلعين على المستندات الأولية «أنّ ما دفعه المصرف عن الدولة كقرضين للكهرباء يبلغان قرابة الـ 4 مليارات دولار». وفي هذا الإطار، يوضح خبير اقتصادي أنّ «من واجبات مصرف لبنان أن يستورد الفيول لتشغيل قطاع الكهرباء. الدولة تدفع له ثمن الاستيراد، أحياناً تكون الدفعة بالليرة وأحياناً بالدولار». المشكلة هنا ليست في أنّه يدفع لتشغيل الكهرباء، بل النقاش يجب أن يكون بشأن خطّة الحكومة، السياسة المُتبعة، الخلافات الداخلية التي تُعرقل المشاريع...

الدين العام «فيول» المصرف والمصارف
الخبرية الثانية التي سوّقها حزب رياض سلامة أنّ قسماً كبيراً من خسارة مصرف لبنان ناتجة من الدين العام. قبل الغوص في الحالة اللبنانية، يُشار سريعاً إلى أنّ القروض، وخاصة الدين السيادي (أي التابع للدولة) يُشكّل «الفيول» الذي يُحرّك المصارف الخاصة والمصارف المركزية حول العالم، ويسمح لها بكسب الكثير من المال. وحتّى حين تُدرك المصارف أنّ الدولة مُتعثّرة، تستمر في إقراضها لأنّ القطاع الرسمي «زبون ثقة» والعقد معه لا يُشكّل خسارة حقيقية، حتى لو تأخّرت المدفوعات أو أُلغي بعضها.
كلّ الدين العام بالدولار الذي بذمّة الدولة للمصارف اللبنانية «يبلغ 12 مليار دولار، و5.7 مليارات دولار لدى المصرف المركزي، أي أنّ الدين العام بالعملة الأجنبية هو بحدود الـ 18 مليار دولار»، يقول خبير اقتصادي، شارحاً أنّ هذا الرقم ليس بمُجمله خسائر، «لأنّ الدولة ستدفع جزءاً منه. لنفترض أنّه يوجد 10 مليارات دولار خسائر من الدين العام، باقي الأموال أين هُدرت؟». ويتبيّن بحسب الخطة أنّ الدين العام يتساوى مع الدين الخاص، الذي يبلغ قرابة الـ 12 مليار دولار.

تعويض الخسائر غير مُمكن
لأنّ تراكم الخسائر «غير المنضبط، يُهدّد بقاء مصرف لبنان»، تذكر الخطة المالية إعادة هيكلة التزامات مصرف لبنان. ولكن تجنّباً لتكبّد تكلفة اجتماعية عالية (لأنّ إعادة الهيكلة ستشمل قسماً من ودائع المصارف)، «ستترك الحكومة المصرف المركزي، مع رأس مال سلبي يبلغ -5 مليارات دولار، يتمّ تعويضه من الإيرادات المستقبلية، بعد إعادة الهيكلة الكاملة للميزانية العمومية».

من أي مدخول سيعوّض المصرف الخسائر؟
يقول مصرفيون إنّ المصرف المركزي «ليس مُضطراً الى أن يُعوّض الخسائر في هذه المرحلة، فالمطلوبات لن تستحق قبل سنوات طويلة. إضافةً إلى أنّ البنوك المركزية لا تعمل كالشركات، بل بإمكانه أن يُكمل عمله مع ميزانية سلبية، وسيتمكّن من تعويض الخسائر المُدورة بغضون 5 إلى 7 سنوات». ويتحدّثون أنّ إيرادات المصرف تتوزّع على:
ــــ العمليات التي يقوم بها وتتضمّن بيع الدولار وسندات الدين.
ــــ المداخيل من المؤسسات التابعة له، كشركة طيران الشرق الأوسط، ولكن مدخول هذه الشركات صغير لا يتعدّى الـ 100 مليون دولار في السنة.
ــــ يُلزم «المركزي» المصارف بفتح حساب «احتياط إلزامي» لديه، فيه قرابة 20 مليار دولار. يُشغّل هذه الأموال، أو جزءاً منها، في مؤسسات خارج لبنان، ويحصل لقاء ذلك على فوائد، تُعتبر أرباحاً لأنّه لا يتكبّد عليها أي مصروف.
الجزء الأكبر من الخسائر، 12 مليار دولار، أُهدرت على الهندسات المالية


يردّ خبير اقتصادي بأنّ «سياسة سلامة استمرت 20 سنة، تراكمت خلالها الخسائر ولم يتبيّن وجود مداخيل لتُعوّضها». النقطة الثانية، هي أنّ سلامة وفي معرض الردّ على وجود خسائر في ميزانية «المركزي»، استحضر تجارب بلدان أخرى معظم خسائرها بعملتها المحلية، والتي تستطيع طبعها لتعويض الخسارة، «في حين أنّ خسائره بالدولار غير ممكن تعويضها بنفس سهولة تعويض الخسائر بالليرة، والدليل هو انقطاع العملة الصعبة من السوق».
ما الذي سيلجأ إليه الحاكم؟ يردّ المصرفيون بأنّه «سيعمل على تأمين السيولة من العملات الأجنبية عبر شقيّن: أولاً، التعاميم التي أصدرها بوقف التداول بالدولار، ما يُتيح له ترميم جزء من موجوداته. ثانياً، تُفيد المعلومات بأنّه تمكّن منذ بداية الأزمة حتى اليوم من إدخال قرابة المليارَي دولار أميركي كأموال جديدة، وهو سيُحاول الدفع أكثر لجذب المزيد منها. ومن ناحية ثانية، سيطلب ترشيد النفقات العامة، وإعادة جدولة الديون وليس هيكلتها». يختصر منصور بطيش كلّ خطوات سلامة بجملة واحدة: «خسائر مُدورة سيتمّ تحميل كلفتها للأجيال المقبلة».



الفوائد للمصارف... خسائر إضافية
يدفع البنك المركزي للمصارف الخاصة:
ــــ فوائد على ودائعها لديه
ــــ فوائد على شهادات إيداع مصرف لبنان (شهادات يُصدرها البنك لقاء مبلغ مجمّد، ويتعهّد عند إصدارها بدفع أصل المبلغ عند استحقاقها، والفوائد المترتبة على المبلغ المودع).
ــــ فوائد على سندات الخزينة.
منذ عام 2016، وحتى تموز الـ 2019، حقّقت المصارف أرباحاً كثيرة بسبب الفارق الكبير بين الفوائد التي تدفع هي لزبائنها، وبين الفوائد التي يدفعها لها مصرف لبنان. ومع اشتداد الأزمة، طُرح السؤال حول عدم توقّف «المركزي» عن دفع الفوائد، ولا سيّما تلك بالدولار، أو على الأقل تخفيضها. في بداية العام الجاري، قرّر مصرف لبنان «استثنائياً» دفع الفوائد على ودائع المصارف بالدولار المودعة لديه بنسبة 50% بالدولار و50% بالليرة اللبنانية. كان هذا الإجراء الوحيد الذي قام به، مُقابل الاستمرار في دفع فوائد شهادات الإيداع وغيره. فإذا كان المصرف يقول إنّه لا يملك دولارات كافية للتدخّل وكبح انهيار سعر الليرة، فمن أين يأتي بالأموال للمصارف؟ يقول خبير اقتصادي إنّ «كل دولار يُنفق هو من ودائع الناس. ما تبقّى من دولارات في النظام المصرفي، تعود للمودعين».