تلازم «الناقل» الجوّال مع الإنسان كيد ثالثة وضرورة تعقيمها، لم يفقد الحيثية الذاتية للجوّال لجهة عدم مراعاة التباعد الاجتماعي كونه ينفصل عن الإنسان لمسافة أقلّ من طول اليد، ولجهة دوره الفعّال في إعادة الانتشار. إلا أن الكشف عنه بصفته الناقل (Vector) فتح النقاش على المدلول الوبائي لقدرة هذا الناقل على نشر الفيروس بأسرع من سرعة انتقاله عبر الهواء، وضرورة التصدي له لمنع الانتشار. ويفتح هذا باب الأسئلة حول أمور عدة، منها سبب تردّد منظمة الصحة العالمية في إعلان COVID-19 وباءً عالمياً، وهل ذلك لأن الصين لم تكتشف سبب تفشي الفيروس أم أنها تعرفت إلى ناقل وأبقته طي الكتمان؟ وهل إعلان خلوّ الصين الطبيعية من الوباء سببه تحقيق نسبة عالية من الفحوصات، علماً أن السلطات الصينية قطعت، أثناء الانتشار، عن منطقة يوهان كل وسائل التواصل مع محيطها الخارجي، أم أن قطع الجوّال كلياً داخل منطقة العزل لعب دوراً أساسياً في بتر «Stemming» الانتشار؟
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

الجميع يتحدث عن الاحتواء بعد الوصول الى ذروة الانتشار، ولكنْ قليلون يفقهون التمييز بين الاثنين لأن العملية ذات ديناميكية تدرّجية قبل الوصول إلى الانتشار. ولا أحد يعلم مدى تأثير التأخر أسبوعاً واحداً (معدل فترة حضانة الفيروس) على ما قد يحدث وبأيّ تسارع. بالتالي، هناك ضرورة لحصر الدينامية في مفصلين: الأول تحديد المرحلة (احتواء ام انتشار)، والثاني بتر الانتشار (التباعد الاجتماعي وناقل العدوى). المفصل الأول، يتطلب وضع آلية جمع معلومات تستند إلى طبيعة تكاثر الفيروس (مدة الحضانة) بمعنى القدرة على العدوى، وإلى «فترة التعافي» بمعنى عدم العدوى. وبالتالي، يجب أن تستند أي عملية إحصائية هادفة لتحديد هذا المفصل إلى معدل الحضانة (أسبوع) ومعدل التعافي (أربعة أسابيع). والمفصل الثاني، يتطلب بالدرجة الإولى تحديد الناقل (يد الإنسان) وبالدرجة الثانية تحديد الحجر والعزل (المعاينات والفحوصات). بغير هذه القواعد، لا يمكن الاستناد إلى أيّ عملية إحصائية حتى تلك المعتمدة من قبل WHO وIBM، وهذا الجزء يعني أهل الاختصاص، ويتطلّب نقاشاً. (ربطا آلية إحصائية لكامل نتائج لبنان المثبتة من قبل وزارة الصحة العامة ومستشفى رفيق الحريري الجامعي كمختبر مصنّف من WHO لمن يرغب في التدقيق).
من هذا المنطلق، يعود الناقل بعد أسبوع من الحضانة ليقول: هل تمكنتم من بتري أم أنني أنتشر أو أعيد الانتشار؟ ومن هنا، برز مصطلح إعادة الانتشار، وفشل التباعد الاجتماعي، ونقاش العمليات الإحصائية. ولم يلتفت أحد إلى أن احتسابها يستند إلى 9 أيام وليس إلى 7 أيام (معدل فترة الحضانة)، وهنا يكمن مفهوم إعادة الانتشار الحقيقي والمزيّف، والسبب الحقيقي وراء توسيع مسافة التباعد الاجتماعى (تحديد الناقل الجوّال). والتشكيك في مصداقية استنتاجات الوسائل الإحصائية وما هو صالح للاعتماد من المؤشرات النسبية وغيرها مما هو ثابت ومتغيّر، وإلخ.
ولضيق المجال، سأتطرق فقط إلى مسألة « Test Test Test» في مرحلة الانتشار، ومسألة «الجهوزية» في مرحلة الاحتواء لحراجتها في القرارات الاستراتيجية في مواجهة الوباء، إذ لا يجوز اعتماد الآليات نفسها في مرحلتين مختلفتين من حيث الإمكانات على تحقيق الهدف والتأثيرات السلبية لكل إجراء.
في ما خصّ مرحلة الانتشار، لا يوجد تأكيد على أن التجربة الصينية اعتمدت فقط على إجراء « Test Test Test». رغم ذلك، ومن الناحية النظرية، لا يمكن نفي إمكانية الاستحواذ على ذروة الانتشار في كبح الانتشار، شرط توافر الوسائل والإمكانات اللوجستية، وشرط عدم وجود عامل غير محتسب قد يؤثر أو يفعّل عملية إعادة الانتشار. أوَليس الأجدر البحث عن عامل انتشار فاعل مثل الخلوي والتحسب له ومتابعته أسبوعياً، كونه العامل الباتر (أي القاطع) لهذا الانتشار من جذعه «Stemming»؟ أضف إلى ذلك التأثيرات السلبية على الجسم الطبي والجسم المساعد والقوى الأمنية المواكبة.
وفي ما خصّ مرحلة الاحتواء المحصورة في بعض الدول المحدودة، ومثلها الصارخ لبنان وبالأرقام، حيث إن فريق عمل مستشفى رفيق الحريري الجامعي مع فريق عمل وزارة الصحة وبالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية كان دائماً منذ عام 2006 يعمل على تقصّي الوباء، وقد بادرت مجتمعة وبتوصيات المنظمة للبدء المبكر بالتقصي قبل ورود أول حالة بعدة أيام. هذه هي الجهوزية التي تعتمدها WHO في ما خصّ الاحتواء ومنع الانتشار لكل الأوبئة الموسمية والطارئة كما حالنا الآن في لبنان، حيث تكون الحاجة إلى زيادة الفحوصات مرتقبة ولا حاجة إلى أي فحوصات عشوائية كما مدلول اسمها. (أمثلة لدول مماثلة للبنان: فيتنام، تايوان وجنوب كوريا)
الخلاصة: ماذا لو اعتمدنا الجوّال «ناقلاً لإعادة الانتشار» وراقبنا إحصائياً بتره (Stemming) ولمدة أسبوع (معدل فترة الحضانة)، واعتمدنا من الأسبوع اللاحق ولمدة ثلاثة أسابيع (أربعة أسابيع معدل فترة التعافي) من تتبّع الانتشار والعمل فقط على حفظ الأرواح ومراقبة تهاوي الأرقام وانتهاء الوباء، لربما تعلّمنا من هذا الوباء الذي من الأرجح أن لا يتكرر مطلقاً، بعد تقصّي مصدره من حريق غابات أستراليا وأثرها الإيكولوجي الكبير على ظهور الأوبئة، ومثلها هجرة الوطواط وغيره من الحيوانات. وتعلّمنا أن نحتسب لكل أدوات عصرنا الحديث (التواصل)، بسلبياتها وإيجابياتها، ومثلنا هنا الناقل الجوّال الذي يستدعي مراقبة تأثيره كمتغيّر متخفٍّ (Confounding Variable) قادر على تغيير الاستنتاجات في دراسة كل الأمور الوافدة والمتكرّرة وذات الصلة الوثيقة بالإنسان.

* اختصاصي مختبرات وأوبئة