لا آلهة على الأرض، بعد اليوم، تُصادر خبز الجائعين أو تُزاحمهم عليه. فالإله الأخير الذي اعتاد، كما أسلافه القدماء، العيش على دماء الفقراء وخبزهم قد تلقّى ضربة كبيرة. وفي انتظار الإجهاز عليه بالضربة القاضية، المرهونة بصراع كبير ومرير، على الجميع تأمل وجه الإله النازف والاستماع إلى صوته القبيح وهو يسأل الحصول على دماء جديدة بأمل إعادة الشباب إلى عروق تصلّبت وشرايين جفّت أو توشك. وفي الأثناء سيزداد، حتماً، الطلب على آلهة السماء الذين لم يتخلفوا يوماً عن لعب دورهم التاريخي المنوط بهم. لكن للتقدم في السنّ أحكامه.لا أفصح من هذه البلبلة ولا أدلّ. إنها واحدة من أبلغ الصور وأسطعها عن حقيقة عجز القوالب السياسية المهيمنة على الارتقاء إلى سوية «الفتوحات» العلمية والمعرفية المدعاة. فالعجز الأصلي كامن ومعلن، وهو سابق على الانكشاف الذي فجّره انتشار الوباء. هو كامن ومعلن في الاختلالات الاجتماعية العميقة، في تدهور البيئة وتلوّث المناخ، في تفشّي الأمراض والأوبئة واتساع دوائر الحروب وسائر المآسي. كامن ومعلن في العجز المسكوت عنه تجاه ما يعانيه العالم من توحّش نظام العيش الذي فرضته الليبرالية الجديدة وبربرية أدواتها وهياكلها العابرة، وهو ما يجد ترجمته في ما تعانيه بلاد الجنوب المستنزفة أرضاً وإنساناً ومقدّرات.
لا أفصح من هذه الهشاشة ولا أدلّ. ومع ذلك، وأمام التخبّط الذي يشلّ الأركان - المقدَّمة على أنها وطيدة - ويُعجز الأدوات، تلوح فرصة يحتاج إليها العالم لإعادة اكتشاف نفسه بوصفه أعجز من أن يلمّ بألف باء الوجود السويّ. وهو الوجود الذي يفرض الحاجة الماسّة إلى إدراك الحدود الفاصلة بين الممكن والمستحيل الإنسانيين.
كان يفترض بسؤال الوباء «الجديد» أن يمرّ هو الآخر كما سبق أن مرّت الأوبئة والأمراض والحروب والفقر والجوع والأميّة وأنواع الفتك الأخرى، وأن ينضم إلى سائر الجوائح، المقيم منها والعابر، التي نالت وتنال، حصراً، من بلاد الجنوب المحكومة، تبعاً لشرائع القوة والتفوّق الغربيين، ومنذ عشرات العقود، بالغرق في الفقر والأميّة والأمراض. كان يمكن للإعراض والتجاهل أن يحدثا فعلاً، تحت صمت العالم وبصره، لولا أن «الاستثناء» هذه المرّة قد تجاوز «الحدود» التي رسمتها العقول المالتوسية المريضة والنفوس الداروينية المعتلّة، فأصاب مقتل الإنسان الجدير (السوبرمان!) ونال من كبريائه. فهذا «الجدير» و»القدير» الذي افترض أنه بهندسته الماكرة والمختلّة والخبيثة للعالم، وعمادها المركزة الكاملة وما يتفرع عنها من استئثار وهيمنة وتسليع وتسلط بلا قيود، قد وفّر الحماية التي تضمن له رغد العيش ورفاهيته بعيداً عما أصاب ويصيب الآخرين والعيش على حسابهم والاستمرار في امتصاص ثرواتهم ومصادرة قرارهم وامتهان وجودهم، اصطدم بالواقع المخالف.
بالنسبة إلينا، نحن أبناء الجنوب وبناته، فإن لا جديد في سؤال الوباء ولا في انتشاره ولا في الأرقام التي يحصدها. فهو من نفس طينة الأسئلة التي سلّطتها علينا قوى السوق وآلهته المعصومين منذ عشرات العقود والتي خبرنا مفاعيلها جيداً على وجودنا وأساسيات هذا الوجود. ولم تثر لا ماضياً ولا حاضراً ما تثيره اليوم من قلق وهلع واضطراب. وبما أننا معتادون على الأوبئة وما هو أخطر من الأمراض التي سبق أن صدّرتها «الهندسات» السياسية والاجتماعية لآلهة السوق الغربيين، يمكن القول مع شيء من المبالغة إن خسائرنا ستكون أقل لا لشيء إلا لأن ما نملكه هو أقل بكثير من أن يُخشى عليه فضلاً عن أن مناعتنا أشدّ وقدرتنا على امتصاص الآثار أعلى!
لا أفصح من هذا الضياع الذي فرض على أصحاب الأجوبة - الجاهز منها والملفق - اللعثمة أو الخرس. وها هم اليوم، وبعد أسابيع من الهزء المباشر (العنصري المقيت والطبقي الحقير) مما أصاب الصين ومحاولات الاستثمار المجرم والتوظيف الرخيص المعهود وتجاهل مسؤولية وواجب تقديم الدعم ها هم يصرخون مرغمين سائلين «العون الصيني» المباشر ويتقاتلون في ما بينهم وحتى يسرقون مشتريات بعضهم البعض من الموارد الطبية بأشكال من السلبطة البدائية.
لا أفصح من هذا الخواء الذي أمسك بهواء المدن التي لم تكن تعرف النوم حتى في أحلك ساعات الحاجة إليه جراء إيهامنا بالحاجة إلى استمرار عمل عجلة «التقدم» الطاحنة.
لا أفصح من هذا الضعف ولا أدل. فبعد اليوم لن يكون ممكناً قياس «تقدّم» العالم بتقدّم بعض بؤره الطفيلية التي يصادف أنها في عواصم الهيمنة. ولن يكون ممكناً قياس «الرخاء» أو «البحبوحة» بتنعّم بضع جزر افترضت أنها محمية بالتقدم المزيّف والرخاء المسروق. كما لن يكون متاحاً استئناف الخيارات السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية السابقة من دون تقديم التنازلات التي لن تكون بقليلة لكنها لن تكون كافية لاستعادة الوهج ولا لإسكات المتضررين.
وهنا، من الضروري القول، مهما بدا هذا القول نافراً: لا ليست المسؤولية واحدة ولا مشتركة. إنها مسؤولية القوى النافذة. مسؤولية النموذج الرأسمالي المتوحّش المفروض بقوة السوق القائمة على الحديد والنار. مسؤولية من ارتكب وفظّع بدفع من الجشع والأنانية ورغبة السيطرة والاستئثار وتعظيم المكاسب. وعليه فإن الترابط في المصير الذي فرضه تفلّت الوباء هو ترابط مؤقت وآنيّ، ولا بد أن يفرض إن عاجلاً أو آجلاً مقاربات سياسية واجتماعية إن لم تكن عادلة فالأكيد أنه ستكون أقل جوراً ووحشية، وخصوصاً بعدما بات متاحاً رصد الخلل الجسيم وتعيينه وكشف أسبابه العميقة الناجمة حصراً عن الرؤى السياسية التي عمّقت الفوارق وأطاحت بالقواعد الناظمة لمسؤوليات الدولة وآلياتها الراعية جزئياً أو كلياً بعيداً عن عصمة السوق الكارثية.
الأكيد أن ما بعد الوباء ليس كما قبله، والأرجح أن توفر الظروف التي نشأت عنه وعن سرعة انتشاره واتساع دائرته المناسبة الفضلى والمطلوبة لوعي جديد، بل لوعي آخر إن لم يقطع مع كل الممارسات والسياسات المسؤولة عمّا نعيشه اليوم من خراب شامل، فعلى الأقل سيجعل آليات اشتغالها السابقة مكلفة. وفي هذا المعنى الواضح والدقيق يتضح حجم المسؤوليات الملقاة على القوى المضادة المعنية بتحملها.
لا، ليس الكل مسؤولاً، ولا يجب السماح للدعاية الغربية التي انطلقت بحجب التفاوت المريع في المسؤولية وتحمل تبعاتها المباشرة وغير المباشرة. إن القول بتعميم المسؤولية هو ضرب من ضروب التجهيل، وهدفه التملّص من مسؤولية المقاربات السياسية الكارثية واستنقاذ هذه المقاربات من المساءلة والمحاسبة التي بدأ صوتها يعلو وسيعلو أكثر كلما تقدم الوقت.
لا أفصح من هذه الهشاشة ولا أدلّ. إنها الهشاشة التي لم تخطر في بال. لقد دخل العالم زمناً آخرَ. تحدي الوباء فتح الأبواب الموصدة، وكسر الأقفال المحكمة وسمح بتسلل بعض الهواء النظيف وبعض خيوط الضوء... وبعد اليوم لن يعود بوسع القابضين على المقدرات تبرير قبضتهم. إننا نعيش إرهاصات «ثورة» عميقة وغير مسبوقة ومن شأنها أن ترسم المسار اللاحق أو أقله تتحكم به، وإن لم تفعل لا هذا ولا ذاك فإنها ستفتح باب الأمل بعودة الروح واستعادة السياسة ومعها التاريخ.
غداً أو بعده ستتجاوز البشرية قطوع الوباء الذي زلزل توازنها المزعوم. فهذا العابر القاتل قابل للكسر، ولن يقيض له أن يكون أخطر من غيره من الأمراض والأوبئة المنتشرة في عموم الكرة الأرضية. وهو مهما فعل لن يبلغ ما بلغته التهديدات السابقة أو المنتظرة نتيجة «سوء» السلوك المتوحّش الذي لم يترك مساحة لم يمسسها بسوء. فالوباء، وببساطة، هو واحد من النتائج المرتبطة بسلوك صفري طوّب الربحية العارية بعدما أطاح بالتوازنات وشوّه الأولويات وأعرض عن النظر إلى المعنى الإنساني الذي لا يستقيم إلا باحترام المعادلات التي تفرضها الطبيعة الأم.
لقد تجاوز العالم بفعل السياسات المتطرفة للنخبة المالية العالمية ولقوى السوق المتمّمة قضية الحاجات الإنسانية ومهمة تلبيتها وسار بعيداً في رهانات التحكم والسيطرة الحمقاء، وعليه فمسؤولية من صاغ المقاربات المخالفة أن يتحمل مسؤوليته وأن يدفع الثمن الباهظ وحيداً، وهذا سيستلزم تصعيداً في النضال.
لم يكن التراخي الذي عبّرت عنه عواصم الهيمنة عند بدايات الوباء إلا تظهيراً لحقيقة الأوهام المسيطرة على العقول، وتعبيراً عن الفوقية العميقة والاستعلاء المهين الذي يحكم سلوك وممارسات هذه العواصم.
«التقدم» وما صنعه من تطور موهوم لم يكن طبيعياً، ولم يكن، بذاته، ثمرة للحداثة، أو تعبيراً عن الحاجات الإنسانية بل كان نتاجاً كارثياً لأخلاقيات الجشع والهيمنة ورغبة إخضاع العالم والتحكم به، وهو كان ولا يزال مدفوعاً بالربحية الصافية وبأوهامها بعيداً عن أيّ وازع لا أخلاقي ولا قيمي.
لنستعد بعضاً من الشريط ونقلْ: إن سباق التسلح الذي فرضه الغرب الاستعماري على العالم بفعل العقول المريضة والنفوس الصدئة، وأجبر، يومها، الاتحاد السوفياتي الوليد عليه قد ترك آثاراً بارزة على مجمل المقاربات الدولية اللاحقة وعزّز من أوهام حكم العالم والتفرد بالسيطرة عليه وهو ما بلغ أوجه مع انهيار المنظومة السياسية والاقتصادية والثقافية التي أقامها النظام السوفياتي واتسمت برغم الشوائب، الناجمة عن حال الدفاع، بطابع إنساني جوهري وعميق عرف الحدود بين الممكن وبين المستحيل ونجح في التوفيق بينهما.
اليوم، وبالرغم من أصوات التفجّع، يمكن ملاحظة ومعاينة الكثير من الإيجابيات الناجمة عن ثقل اللحظة الوبائية. فالتلوّث بما يشكله من حاضن للأوبئة والأمراض يسجل تراجعات لافتة وكذلك هو حال الانبعاثات العالمية المسبّبة لتغير المناخ... بل يمكن القول إنه باستثناء الكلفة الباهظة التي يدفعها الضحايا المباشرون وبينهم الكثير من أبرياء الجنوب وارتفاع أرقام الوفيات والمصابين فإن كل المؤشرات المرتبطة بالبيئة فضلاً عن انكشاف واتضاح عقم وكارثية المقاربات النيوليبرالية تنحو باتجاه الإيجابية.
نظام العيش المفروض على عموم البشرية لم يعد صالحاً. والوباء هو إنذار بضرورة تغيير هذا النظام وأساليبه المغرقة في الطمع والجشع ورغبة الاستحواذ بلا حدود. فالإنسانية أغنى وأرحب من أن تؤسر في قالب واحد ونظام عيش فشل مراراً وتكراراً، وكلّف البشرية خسائر وفواجع لا حصر لها.
على صاغ المقاربات المخالفة أن يتحمل مسؤوليته وأن يدفع الثمن الباهظ وحيداً، وهذا سيستلزم تصعيداً في النضال


لقد آن الأوان لكي نبتعد عن الابتزاز الذي يمارسه الغرب بإيهامنا، نحن أهل الجنوب، بمسؤولية ما عن الوضع الذي صارت إليه البشرية. أما التركيز على الفيروس الجديد واعتباره الخطر الوحيد الذي يستدعي كل هذا الهلع والرعب الذي ألجأ الناس إلى المعازل الطوعية أو الإلزامية ففي ذلك تضليل لا يجب أن يحجب باقي المخاطر والتي لا تقل سوءاً ومصيرية عن هذا الوباء، بل هي المخاطر الأمّ لهذا الوباء ولغيره. فالتفارق الرهيب في مستوى العيش ونوعه لا يقل في كارثيته عن الوباء بل إن هذا التفارق غير المسبوق تاريخياً هو المسؤول عن الجائحة الراهنة وعن غيرها. والسؤال الملحّ هو عن السبل الآيلة إلى مواجهة الواقع الموبوء أو المهدّد باستمرار نتيجة مقاربات وسلوكيات تجاوزت الخطوط الحمر منذ زمن بعيد وأفضت إلى هذه الهشاشة التي تعيشها الإنسانية اليوم.
الأسئلة كثيرة وبينها السؤال المتعلق بما تغرق به الإنسانية من مشكلات التصحّر وانتشار الأمراض والأوبئة الكثيرة... هل يمكن لهذه الجائحة التي لم تأت من عدم أن توقظ الإنسانية من سبات تسبّب بكل هذا الخراب الذي نلمس نتائجه هنا وهناك في الكوارث والأمراض القاتلة والفيضانات والأعاصير... وهل يمكن لها فعلاً أن تدفع أصحاب الهيمنة والاستحواذ والجشع إلى إعادة النظر في النموذج المهيمن، وهو المولّد الحصري لكل الآفات والمخاطر المهدّدة للكينونة الإنسانية برمّتها. الأرجح أن هذه القوى غير مؤهّلة لتحمل أيّ مسؤولية بدليل الاستمرار في شكوى الخوف على الاقتصاد، أي اقتصاد الأرباح حصراً.
إن كل المقترحات والحلول المطروحة على الطاولة اليوم لن تكون بمستوى اللحظة وحراجتها إن لم تأت من ضمن رؤية جديدة ومتكاملة واستراتيجية تلحظ موقعاً مغايراً للإنسان وتعيد إليه قيمته الحقيقية بوصفه الأولوية والهدف الأسمى والأخير، ولن يكون ذلك ممكناً إلا بالإعلاء من شأن البرامج التنموية العميقة التي تلحظ الحاجات المباشرة وغير المباشرة للإنسان وتقدمها على ما سواها، وهذا يستلزم ويفرض إجراء تغييرات جذرية في الرؤى والبرامج، وهذا يستلزم بالضرورة ولادة قوى جديدة تأخذ على عاتقها هذه المهمة الجليلة. وفي ما خص الجنوب ودوله الغارقة في الاستتباع فإن التنمية التي يحتاج إليها تستدعي أول ما تستدعي التفلّت الخشن من براثن الهيمنة الغربية وشقّ الطريق المستقل بالتعاون بين دوله، وهذا يفترض أولاً التراجع الفوري عن معظم الخيارات الخاطئة المعتمدة في كل القطاعات المرتبطة بحياة إنسانه وتقوم على ديمومة الموارد واستدامتها.