في 15 كانون الثاني الماضي، كانت «ليلة المصارف». النار مُندلعة في مدخل مبنى جمعية المصارف. وشارع الحمرا يهتزّ على وقع انهيار واجهات تلك المؤسسات، وتكسير صرافاتها الآلية. غضب وجرأة غير معهودَين تجاه «إلَه الاقتصاد» في لبنان. كيف ردّت المصارف على حالة الغضب تجاهها؟ رَكَلت إلى أبعد مدى كرة النار التي أنتجتها انتفاضة 17 تشرين الأول، مُستمرة في العمل على المنوال القديم نفسه، وبتشديد الإجراءات «العِقابية» تجاه المودعين. لم تدرس العوامل التي أدّت إلى كلّ هذا الحِقد تجاهها، وبالتأكيد أنّها لم تحسب أنّ من فعلها مرّة قد يُكرّرها مرات دفاعاً عن حقّه، فكان لها وباء «كورونا» خير «مُعيلٍ» لتمكين أقفال خزناتها على أموال الشعب.لم يكن أمس اليوم الأول الذي تستحق فيه الرواتب في الحسابات المصرفية، وتتوجّه أعدادٌ كبيرة من الناس إلى المصارف، للحصول على السيولة. إلا أنّ ما شهده عدد من الفروع، والزحمة أمام ماكينات الصرّاف الآلي، تَرجمت حالة الهلع المسؤولة عنها المصارف نفسها، بعد أن قرّرت إعلان «حالة طوارئ» خاصة بها، وحصر حصول الناس على النقد من الصرّافات الآلية. هرع المودعون لنيل أموالهم قبل أن تفرغ الصرافات من النقد، فكان ضربٌ عرض الحائط بكلّ إجراءات التعبئة العامة، التي تمنع التجمعات والاختلاط. ولكن ما الحلّ إذا كانت المصارف قرّرت إقفال الصناديق الداخلية وعدم استقبال إلا كبار المودعين وممثلي الشركات وتنفيذ عمليات ضرورية والتحويلات المالية إلى الخارج، بناءً على مواعيد مُسبقة؟
المُستغرب أن تكون المصارف الحريصة على صحّة موظفيها من عدوى «كورونا»، وبناءً عليه برّرت وقف العمليات الداخلية، في الوقت نفسه غير آبهة بصحة عموم المواطنين، فتُسهم في اختلاق أزمة تدفعهم إلى التجمهر أمام أبوابها. زاد في زحمة الناس إعلان عدد من المصارف أنّها ستفتح جميع فروعها ليومين أو ثلاثة «تسهيلاً للعمليات المصرفية المُلحّة»، ما زاد الأمر تعقيداً.

توقفت شركة مكتّف، التي تُسيطر على 50٪ من نقل النقد، عن شحن الدولار(هيثم الموسوي)

كانوا كُثراً في الخارج: الزبائن الذين لا يملكون بطاقة للسحب الإلكتروني - وهم غالباً من أصحاب حسابات توطين رواتب التقاعد، أي المُحتاجين بدرجة أكبر من غيرهم للحصول على مالهم - وتصل نسبتهم في بعض المصارف إلى حدود 40٪، والمودعون أصحاب الحسابات بالدولار (الذين لا يستطيعون الحصول على أموالهم من الصراف الآلي)، والموظفون الذين يُريدون الحصول على رواتبهم كاملة بدل أن يكونوا محكومين بقيود على السحب من صرّافات آلية لا تسمح لهم بسحب كامل المبلغ... إلا أنّ «الخديعة» بحقّ المواطنين جاءت على شكلَين: أولاً، أنّ قرار فتح الفروع لم يشمل كلّ المصارف. حتّى تلك التي استقبلت الزبائن، استثنت منهم الراغبين في سحب المال من الصندوق. فيقول عاملون في عدد من المصارف المُصنّفة «ألفا» إنّه «طُلب منّا استقبال الحالات الطارئة جدّاً فقط». ومن لا يملك بطاقة؟ «نُصدرها له في غضون يومين»، في حين أنّ مصارف أخرى «دُعي موظفو بعض الأقسام فيها إلى المداومة اليوم، من دون تحديد أي إجراء آخر». يقول أحد الخبراء المصرفيين إنّ عدم إصدار بطاقات سحب الكترونية للجميع، وحصر سحب النقد بالصرافات الآلية، «هي الاستراتيجية الجديدة للحجز على المال». في هذا السياق، يقول عضو جمعية المصارف ورئيسها السابق جوزف طربيه، في اتصال مع «الأخبار»، إنّ من «واجب المصارف أن تؤمّن دفع الرواتب، وهذا من البديهيات، لذلك قرّرت أن تفتح». ولكن لم يكن هناك قرار جامع من «الجمعية» بذلك، ما أدّى إلى «استنسابية» في الإجراءات من المصارف. يوضح طربيه ذلك بأنّه «بحسب محفظة كلّ مصرف من الرواتب. فتلك التي تملك محفظة كبيرة فتحت لتؤمّن الطلب». تلبية الخدمات لأيام قليلة، تعني أنّ بإمكان المصارف أن تفتح طيلة الشهر، مع تعديل في الدوامات وأعداد الموظفين، وبعد اتخاذ الإجراءات الوقائية كافة، بما يُخفّف الضغط الشعبي، إذا ما حُدّدت الخدمة بيومين. يُجيب طربيه بأنّه «ليش عم نقدر نجيب الموظفين؟ أي ورقة أو معاملة ممكن أن تؤدّي إلى نقل الفيروس».
الخديعة الثانية، هي توقّف المصارف نهائياً عن إعطاء الدولار، وإجبار الناس على السحب بالليرة. المصارف التي استقبلت أمس المودعين داخل الفروع، كبنك عودة وبنك بيروت، أبلغت المودعين بعدم توافر الدولار «إلى حين انتهاء أزمة كورونا»، وكان قد سبقهما إلى الدرب نفسه بنك بيبلوس وغيره من المصارف. يتحجّج طربيه بتوقّف «الطيران، وبالتالي عدم القدرة على شحن الأوراق النقدية، التي عادة ما نُدخلها بواسطة حقائب على متن الطيران المدني العادي وليس رحلات شحن البضاعة»، ناصحاً بأنّه «يجب أن نعتاد الليرة». ومن يملك وديعة بالدولار ماذا يفعل؟ «يسحب بالليرة»، مُعيداً التذكير بمشروع «الكابيتال كونترول» الذي سُحب من التداول، وكان الاتجاه في إحدى نسخه إلى تحديد سعر الصرف بـ2000 ليرة.
يقول طربيه إنّ على من يملك وديعة بالدولار أن يسحب بالليرة


في هذا الإطار، يشرح أحد الخبراء المصرفيين أنّ شحن الأوراق النقدية إلى لبنان يتمّ من سويسرا ولوكسمبورغ وبلجيكا وقبرص، «قبل أسبوع كانت عمليات شحن الدولار لا تزال مُستمرة». إلا أنّ المشكلة التي طرأت هي «من دول المصدر، التي باتت تتحفّظ على تصدير العملة الأجنبية بسبب أزمة كورونا». وتُضيف مصادر مالية مُطلعة أنّ أربعاً من شركات الشحن الكُبرى الخمس توقفت عن شحن الأوراق النقدية منذ إقفال المطار، «في حين أنّ الشركة الأكبر بينها، وهي شركة مكتّف، لم تتوقف إلا قبل أيام قليلة، وهي التي تنقل نحو 50٪ من النقد إلى لبنان». وتُضيف المصادر المالية أنّ المصارف «في ما خصّ التحويلات للطلاب في الخارج قامت بتغذية حساباتها بالسيولة لدى مصارف المُراسلة ليتمّ الدفع عبرها».
الخلاصة أنّ المصارف مُستمرة في الكذب، لا سيّما حين تقول إنّها «مقطوعة» من الدولارات بسبب توقف شحنه منذ انتشار «كورونا» وإعلان التعبئة العامة، هي التي كانت تسعى إلى فرض حالة طوارئ عامة تُعطّل خلالها البلد نهائياً. المشكلة أنّ «الجمعية» والمصارف، ومن خلفهما المصرف المركزي، يتناسون أنّ 84٪ من المودعين في البلد يملكون 8.2٪ من مجمل الودائع، وسقف حساباتهم أقلّ من 50 ألف دولار، ما يعني أنّ تأمين حاجاتهم لا يُفترض أن يُمثّل مشكلة للمصارف، إلا إذا كانت فعلاً مُفلسة!