مع كل التعاطف الكلامي الذي يبديه الأوروبيون تجاه الأزمة المالية والاقتصادية اللبنانية، لا تختلف أولويات فرنسا وبريطانيا وألمانيا عن أولويات صندوق النقد الدولي، في توجيه تحميل عبء الأزمة للمواطنين اللبنانيين والقطاع العام.فالحديث عن أي دعم أوروبي لإنعاش الوضع المالي، كالذي راج أخيراً بعد تصريح وزير الخارجية الفرنسي على هامش أعمال مجموعة العشرين في السعودية قبل نحو أسبوعين، يرتبط بمجموعة إجراءات عاجلة مطلوبة من الدولة اللبنانية، «تساعد الدولة»، بحسب النصائح الأوروبية، على «التفاوض مع صندوق النقد الدولي من موقع أقوى».
ولا يستغرب هذا الموقف، فالذي غطّى طويلاً سياسات الاستدانة اللبنانية، ليس غريباً عليه أن يختار الوصفات الجاهزة على حساب الطبقة العاملة. ونقلت مصادر مطّلعة، عن سفيرين أوروبيين على الأقل، تأكيدهما أن خطاب رئيس الحكومة حسّان دياب «مقبول جداً بالنسبة إلى أوروبا»، وهناك «اهتمام كبير وتعويل على الحكومة لإجراء إصلاحات». إلّا أن السفيرين، لفتا بحسب المصدر، إلى ضرورة قيام الدولة بثلاث خطوات عاجلة للحصول على «دعم أوروبي إنعاشي»، تبدأ أوّلاً بمعالجة ملفّ الكهرباء بشكل سريع، و«اتخاذ خطوات إجرائية لتوقيع عقود واضحة وصريحة لضمان وقف الهدر في الخزينة من هذا القطاع خلال سنة ونصف سنة أو حدٍ أقصى سنتين».

مشروع قانون القيود يفرض على المصارف تحرير الرواتب والأموال «الطازجة» (هيثم الموسوي)

وكذلك الأمر، بالنسبة الى سعر المحروقات. إذ يعتبر الأوروبيون أن الفرصة الآن سانحة لرفع سعر البنزين في ظلّ التراجع الكبير في أسعاره عالمياً، وبالتالي فإن على الحكومة رفع الأسعار لتأمين موارد إضافية، فضلاً عن ضرورة الشروع فوراً في عملية تخفيض لحجم الدولة والقطاع العام وتعويضاته وتقاعدات موظّفيه، على أن تكون هذه الخطوات، على ما نقل المصدر عن الدبلوماسيين، «رسالة ثقة للداعم الأوروبي».
وبهذه المطالب، وعدا عن ملفّ الكهرباء الذين يحتمل النقاش، تبدو المطالب الأوروبية نسخةً طبق الأصل عن مطالب صندوق النقد الدولي ووصفاته التي طبقها ويطبقّها في دول عديدة وتكون نتائجها كارثية على غالبية السكّان. وبدل الحثّ على إجراءات وقوانين تطاول الثروات المشبوهة واستعادة المال المنهوب ومحاسبة الفاسدين الكبار والسماسرة، يحثّ الأوروبيون الحكومة الجديدة على اتخاذ الإجراءات الأسهل لتحصيل الأموال من الشعب.
في مكان آخر، تأخذ قضية التخلّف عن دفع سندات اليوروبوندز وورشة إعادة هيكلة الدين العام، كل الاهتمام الحكومي خارج التركيز على أزمة فيروس كورونا المستجدّ. وهذا الأمر، لا يقتصر على رئاسة الحكومة، بل يضرب الوزارات التي تعاني شبه جمود، منذ ما قبل تفشّي الوباء، لعدّة عوامل، أوّلها عدم حصول الوزارات على اعتمادات من وزارة المال لإجراء عقودها وعدم ثقة القطاع الخاص بقدرة الوزارات على سداد استحقاقاتها، في نفس الوقت تخبّط الوزراء الجدد في التركة الثقيلة الموجودة في إداراتهم.
فعلى أهمية قرار التوقّف عن السداد، إلّا أن هذا القرار سيف ذو حديّن، فإن لم يترافق مع الخطة الاقتصادية والمالية المنتظرة وبإجراءات سريعة لضبط الأسواق واستعادة الثّقة بالدولة، وهو ما لم يحصل حتى الآن، فإن هذه النتائج لن تحد من الانحدار المستمر منذ سنوات، وبلغ ذروته العام الفائت ولا يزال مستمراً. فاللجنة الحكومية المكلّفة إعداد الخطة، مثقلة بالمستشارين الماليين وذوي الارتباطات السياسية، وكل نقاش يأخذ أبعاداً وأبعاداً ويدور في حلقات مفرغة، ما يعرقل إنجاز الخطّة في ظلّ المخاطر الداهمة.
ففي ما يتعلق بموضوع «قص الشعر» (الاقتطاع من الودائع الكبيرة والديون)، طرح في الجلسة الحكومية أول من أمس، لكنه يحتاج الى الكثير من النقاش. فالسؤال الأساسي هو حول من سيطاوله هذا الإجراء؟ وما هو البديل؟ والتوجه حتى الآن، بحسب مصادر حكومية، «هو البدء بالهير كات على السندات واليوروبوندز وشهادات الإيداع، واذا كان لا بد من إجراء «هير كات» على ودائع الناس، فاستطراداً يبدأ من الذين لديهم ودائع عالية، والهير كات يطاول الفوائد لا أصل الودائع». وكان لافتاً في الجلسة أن كل وزير كان يطرح رقماً معيناً حول الودائع التي يجب أن تطاولها الـ«هير كات» والنسب.
أما بشأن إعادة هيكلة البنوك، فأكدت المصادر أن «هناك إصراراً على أن تتحمل المصارف المسؤولية وأن تقوم هي بتأمين الأموال من الخارج واسترجاعها بعدما قامت بتحويل جزء كبير منها».
وبلا شكّ، أثار الاجتماع الذي عقده المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم مع ممثلي المصارف، حول إجراءات «الكابيتال كونترول»، حفيظة الحكومة التي تستعد لإدراج مشروع القانون على جدول أعمالها، تمهيداً لإقراره والتصويت عليه. إذ إن الاجتماع لم يحظَ إلّا بالانتقادات، على اعتبار أنه ليس من صلاحية القضاء إبرام اتفاقات من هذا النوع ليست قانونية ولا ملزمة، كما اعتبر آخرون أن هكذا إجراء يبرئ المصارف ويعطيها ورقة قوة للسطو على أموال المودعين.
وبحسب مصادر وزارية، فإن مشروع القانون الذي سيبحثه مجلس الوزراء بشأن القيود على الحسابات المصرفية يحرر صغار المودعين من سطوة المصارف واستنسابيتها»، إذ يحدد سقف السحوبات بـ 300 مليون ليرة سنوياً، أي 25 مليون ليرة في الشهر، و50 ألف دولار سنوياً، أي حوالي 4200 دولار شهرياً، بالإضافة الى التزامات إدارية أخرى لها علاقة بتحويلات إلى الخارج في حالات محددة (كالدراسة والطبابة والإقامة في الخارج). وبحسب المصادر، فإن مشروع القانون يفرض على المصارف عدم وضع أي قيود على الرواتب والأجور والأموال «الطازجة»، سواء أتت من داخل لبنان أو من خارجه.
الوزارات تعاني جموداً في ظل غياب الاعتمادات وخوف القطاع الخاص


وخلافاً لكل التسريبات عن مفاوضات خلفية تجرى مع الدائنين بشأن سندات «اليوروبوندز» لمرحلة ما بعد التوقف عن السداد، قالت مصادر حكومية إن «المفاوضات الجدية المباشرة لم تبدأ بعد»، صحيح أن «شركة لازارد تتحدث مع بعض هذه الجهات وتحديداً صندوق أشمور، إلا أننا في انتظار يوم الإثنين المقبل تاريخ تحديد موقفهم النهائي من قرار لبنان تعليق الدفع». وأكدت المصادر أن «ما يُحكى عن قنوات اتصال بين المصارف والدائنين غير صحيحة، فنحن تخطينا هذه المرحلة، والسؤال هل سيلجأ هؤلاء الى القضاء الأميركي أم لا؟»، مشيرة الى أن «الأجواء التي نقلت في الاجتماع المالي أول من أمس في السرايا أن الدائنين لا شك سيتّجهون الى رفع دعاوى، لكنهم في الوقت نفسه سيفتحون خط تفاوض». ولفتت إلى أن «التفاوض يجب أن يحصل عن 29 استحقاقاً وليس عن استحقاقات عام 2020».
وعلمت «الأخبار» أن الفريق الحكومي تلقى رسالة من جهات سياسية بأن إعادة هيكلة الدين العام يجب أن تشمل أيضاً الدين الداخلي، فالمصارف حققت أرباحاً كبيرة في الفترة الماضية، وقد طرحت فكرة إجراء تقييم لآخر 15 سنة لتحديد الأرباح من الفوائد واستعادة جزء منها.
وقالت مصادر سياسية بارزة، إن هناك قرارات مطلوبة سريعاً من الحكومة، فلا يعقل أن «يبقى حاكم مصرف لبنان الآمر الناهي في التعميمات، وسوق الصرافين مشرّعة بهذا الشكل، لذا يجب تعيين نواب الحكام وعودة المجلس المركزي للانعقاد واتخاذ إجراءات عملية لضبط سوق الصيرفة».