أبى رئيس الحكومة سعد الحريري أن يغادر السرايا الحكومية من دون تصفية حساباته مع حلفائه وخصومه، لكنه لم يختر من بينهم سوى التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. إلا أن ردة الفعل العشوائية تجاه الحزبين اللذين صودف أنهما الحزبان المسيحيان الأكثر تمثيلاً، لافتة بمعنى الميثاقية التي طالب بها مناصرو الحريري، لتغطية تكليف حسان دياب، وإن كانت أسبابها تختلف في جوهرها وتفاصيلها في تعاطي الحريري مع الطرفين.لعل أبرز ما حققته التحركات الشعبية بعد استقالة الحريري أنها تمكنت من فك ارتباطه برئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، اللذين كانا حتى ليل 17 تشرين الأول مستمرين في «حكومتهما»، يصيغان معاً عدداً من الاتفاقات، بينها النفط والكهرباء وسلّة التعيينات التي كان يتم التفاوض عليها بالأسماء والمراكز، ويتفاوضان حتى على تقاسم حصة وزراء القوات بعد استقالتهم. لولا هذه الانتفاضة، لم يكن هذا الفصل ممكناً منذ خياطة تفاهم ثلاثي في أول لقاء خارج لبنان، قبل إطاحة ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، والاتفاق على التسوية الرئاسية. فبين سعد الحريري ومستشاره السابق نادر الحريري وباسيل كثير مما هو غير معروف ولم يخرج الى العلن بعد. لكن ما كتب بين الثلاثة وبعلم حزب الله، سمح للحريري وباسيل بأن يكوّنا ثنائياً، طوال ثلاث سنوات، لم يتمكن الرئيس نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من زعزعزته، رغم تأثيراته السلبية.
لذا تبدو لافتة استفاقة الحريري المتأخرة على «ارتكابات» باسيل، التي لم يدخر أركان تيار المستقبل ونوابه السابقون والحاليون جهداً للفت نظره إليها من دون جدوى. لا بل إن كل المعترضين على أداء باسيل وتغطية الحريري له في مجلس الوزراء وتخلّيه عن صلاحياته أزيحوا جانباً، لمصلحة كل من صرَف النظر عن التسوية ومفاعيلها. من هنا، ينظر بعض السياسيين الى ردة فعل الحريري بمفعول رجعي، من زاوية محاولته توجيه رسائل إقليمية ودولية عن تمايزه، والتخفيف من الأضرار التي لحقت به جراء خروجه من الحكومة، وعدم قدرته على امتصاص نقمة الشارع الحقيقي الذي تظاهر ضده، فعاد الى شارعه السني وإلى المربع الأول في عام 2005، إذ تتجدّد النصائح من قلب بيته له بصياغة تحالف رباعي، من دون القوى المسيحية. وهذه النواة التي يحرص اليوم على التمسك بها، فيرتد على باسيل كأحد أركان التسوية، من دون أن يتوجه بكلمة انتقاد واحدة لحزب الله، محركاً في الوقت نفسه الشارع في لعبة مزدوجة، علماً بأن باسيل لم يرتكب اليوم جديداً لم يرتكبه خلال ثلاث سنوات، في ظل رئاسة الحريري الحكومية، واللغة التي ينتقدها الحريري استخدمها باسيل علناً في أكثر من مناسبة وردّ بها على بري، مطالباً بحفظ «حقوق المسيحيين» ومصرّاً على صياغة خطاب طالما اتهمه به خصومه بأنه عنصري وطائفي، سواء بالنسبة الى النازحين السوريين أو استرداد المناصب الإدارية وتحصيل المقاعد النيابية والوزارية، علماً بأن الحريري يعرف تماماً أن خط الدفاع عنه لدى العهد ومناصريه هو باسيل وليس رئيس الجمهورية الذي كان ينحاز عند أول اصطدام الى استبدال الحريري برئيس حكومة آخر، وكانت ضحكته كبيرة بحسب من التقاه أخيراً بعدما انتهت الاستشارات النيابية بتسمية دياب.
ورغم أن جنبلاط ذهب أبعد من القوات والتيار في تسمية السفير نواف سلام لرئاسة الحكومة، منتقداً عدم مجاراته في هذه التسمية، إلا أن ردة فعل الحريري انحصرت بالقوات اللبنانية وجاءت أيضاً في غير سياقها، لأنه تصرف وكأن له دَيناً في ذمة القوات لم تسدده. لم يفهم بعد أسباب نقمة الحريري عليها، فإذا كان السبب سعودياً أو أميركياً، فهو أول من يجب أن يتفهم ذلك. وإذا كان السبب محلياً بحت، كما تصرّ القوات نتيجة مداولات داخلية، فإن الحريري يفترض أن يجيب عن أسئلة مشروعة عن كيفية قيامه منذ ما قبل التسوية الرئاسية بسلسلة خطوات ناقصة تجاهها. ففي الانتخابات النيابية، لعب الحريري بنصيحة نادر الحريري ورقة التيار الوطني في أكثر من دائرة، لتجيير أصوات له. وحين حالف القوات بطريقة محدودة، في عكار مثلاً إنما فعل ذلك تحت الضغط الخارجي ليس أكثر. وخلال المفاوضات الحكومية، أعطى الحريري لباسيل ما طلبه وما لم يطلبه، ولم يراعِ القوات في ما تعتبره حقاً لها. وتخطّى الحريري كل جسور العلاقة معها لمصلحة تفاهم حيوي مع التيار خلال جلسات مجلس الوزراء والملفات التي كانت مطروحة عليه. خلال ثلاث سنوات، معدودة هي اللقاءات التي جرت بين الحريري وجعجع، كما نقاط التفاهم بينهما، الذي كانت القوات تصرّ على حصرها بـ«البعد الاستراتيجي». لكن واقع الأمر هو أن الحريري تخلّى عن القوات أكثر من مرة، ليوفد عند اشتداد الأزمة، وعند الحاجة الماسة الى جعجع، مستشاره الوزير غطاس خوري هو نفسه الذي لا يوفر جعجع والقوات بكلمات حادة، كل مرة يشتد فيها الكباش بينهما، منذ استقالة الحريري من السعودية.
تكمن خطورة هذا الاشتباك السياسي، مع التيار والقوات، مهما ارتكبا من أخطاء، أنه يلعب على حد التوتير الطائفي، لأن الحريري يستغل الشارع في أكثر من اتجاه. لكن التيار الوطني الحر لم يعد في زمن 2005، بل بات يستخدم فائض القوة بحكم وجوده في السلطة. أما الهجمة الارتجالية على القوات، فورقة خاسرة بالنسبة الى الحريري، إقليمياً وأميركياً، ما يجعله في موقع المطلوب منه الحدّ من الخسائر التي لا ينفكّ يلحقها بنفسه وبتياره.