ينتظر رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري إشارة أميركية واضحة تدعم عودته من دون أي لبس إلى السرايا الحكومية، متكلاً على بعض أعضاء في فريق الإدارة الأميركية، ولا سيما في الخارجية، لحشد الأصوات الداعمة لوصوله مجدداً. لم يتلقّف الحريري الرسائل المتكررة، عن تجاهل الإدارة الحالية له، بعد كل ما رشح من لقاءات باريس، إلى الحدّ الذي تطوّر الكلام عن أن تغطية عودته أميركياً تشبه تغطية واشنطن لوصول رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى قصر بعبدا. في المقابل، لا يزال الحريري يراهن على دور الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الغارق في سلسلة أزمات داخلية، لتأكيد حصوله على دعم دولي، في مقابل دور بريطاني يعبّر ــــ نيابة عن الأميركيين ــــ عن «رأيهما» في ما يجري من تحركات ميدانية ومحاولات القمع المستمرة وعن أن الحلول الدولية للبنان لا تزال دون الحد المطلوب.مشكلة ما يواجهه الحريري منذ استقالته، أنه راهن بكل أوراقه من دون التحوط مسبقاً للخطوة المقبلة، دولياً أو محلياً، نتيجة حسابات خاطئة جعلته لا يستجيب لعون وللرئيس نبيه بري بعدم الاستقالة. وجعلته أيضاً واثقاً باحتمال عودته من دون أي اعتبار لا للشارع ولا لموقف عون منه، بعدما وضع رصيده كله في يد الوزير جبران باسيل، علماً بأن الأخير لا يزال متريّثاً في التخلّي عنه نهائياً، لاستيضاح الموقف الدولي أكثر، ولأسباب تتعلق بوضع التيار الوطني الحر وحسابات الربح والخسارة بعد موقف القوات اللبنانية الأخير من الحريري. ومشكلته أيضاً أنه بات أسير المبالغة في التذاكي، لأنه أيضاً كان قريباً من وضع فخ هو الآخر لكل من وعدهم بحكومة تكنو سياسية. هناك من يتحدث عن تأليف حكومة تكنوقراط كاملة، كان الحريري يريد فرضها كأمر واقع، علّه يجتذب بذلك رضى دولياً ورضى الشارع أيضاً، لكنه في الوقت نفسه يراهن على رفض عون وحزب الله لها، ما يخرجه في لحظة يراها مناسبة من ابتزاز الطرفين اللذين يريدانه رئيساً لحكومة وحدة جامعة، ومن قفص الاتهام الشعبي، ويبقيه رئيساً لحكومة تصريف أعمال الى حين تختمر ظروف سياسية قادرة على إيجاد حل دولي للأزمة الداخلية.
يراهن الحريري على الوقت، لكنه أيضاً يغامر كثيراً، بعدما ثبتت تجربة الشهر ونصف الشهر الأخيرة، أنه لم يقدم استقالته فقط من الحكومة بل أيضاً من تصريف الأعمال، الأمر الذي يمثّل ضربة جديدة لمساره، وهو الذي لم يتمكّن أصلاً من تحقيق أي إنجاز طوال ولاياته الثلاث. فحين قدم الحريري استقالته الى عون، بدا الامتعاض واضحاً لديه لعدم صدور بيان فوري لتكليفه تصريف الأعمال. لكن منذ 29 تشرين الأول، لم يتصرف إلا كرئيس تيار المستقبل، وفي البيان الأخير كزعيم سنّي يريد تحصيل حقوق طائفته في وجه الطوائف الأخرى، وليس كرئيس حكومة تصريف أعمال.
خلال شهر ونصف شهر، تدهور الوضع الداخلي السياسي والأمني والاقتصادي والمالي الى مستوى غير مسبوق، لكنه ظل دون المستوى الذي يدفع برئيس حكومة تصريف أعمال الى القيام بمبادرة ما أو متابعة شؤون الوزارات أو الوضع السائب المتروك بلا حد أدنى من رقابة السلطة والحكومة. كل عناصر إدارة الأزمة تمحورت لدى الحريري حول تأمين عودته الى موقعه رئيساً أصيلاً، واستطراداً متابعة مؤتمر سيدر والحوارات الدولية لتأمين أموال لن تصل الى لبنان. يمكن الحريري التذرع «بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال» دستورياً، لكن الظروف الاستثنائية الحالية، فضلاً عن القفز المستمر فوق الدستور، إلا عند الكلام عن صلاحيات الرؤساء، تمثّل عاملاً قوياً للقيام بأي عمل لمواكبة الخطورة الراهنة.
ليس الحريري وحده الذي يتصرف كرئيس تيار سياسي، وكمستقيل من دوره الحكومي، مثله مثل وزراء القوى السياسية الأخرى، الذين يتصرفون منذ أسابيع كوزراء أحزاب، وكقوى سياسية منفصلة عن السلطة الحالية، وبالحد الأدنى من الموجبات التي تفرضها عليهم أحياناً متطلبات تتخطى الشأن الداخلي كملف النفط مثلاً. خلال شهر ونصف شهر، سجلت أكثر من مواجهة أمنية وتصرفات خشنة ومؤذية من الجيش وقوى الأمن في مواجهة المتظاهرين، لكن ذلك لم يدفع رئيس الحكومة أو الوزراء المختصين الى التدخل واستدعاء المعنيين والسؤال عن تصرفات ضباط وعسكريين على الأرض، من دون أي رادع، ما سمح بتمادي هؤلاء، وهم معروفون بالاسم والانتماء السياسي. في هذه الفترة، سجلت صدامات وشعارات طائفية ومذهبية، لكن رئيس الحكومة، الذي يتذرع بتصريف الأعمال، ظل مشغولاً بمتابعة تطيير أسماء المرشحين، الواحد تلو الآخر. في أقل من شهرين، أقفلت مؤسسات تجارية وصناعية وطرد مئات الموظفين وخفضت رواتب آلاف آخرين، وانخفضت قيمة رواتب اللبنانيين، وتمنعت المصارف عن إعطاء المودعين حقوقهم وودائعهم، وفقدت مواد غذائية ومستلزمات طبية، من دون أن يرتفع صوت اعتراضي من حكومة تصريف الأعمال، والوزراء المختصين. طافت شوارع بيروت بالمياه، وعامت النفايات، واحتجز العشرات في الطرق ولم نشهد تحركاً وزارياً ولا اجتماعاً لمواكبة ما يجري. بل إن وزراء ومسؤولين ممن يستعدّون لمغادرة البلاد، بعيداً عن العيون، لتمضية الأعياد خارج لبنان، يتصرفون وكأن الانهيار الحالي ليس حتمياً.
في المشهد الحالي، رئيس حكومة تصريف أعمال ينتظر تكليفه، وقد يبقى إذا كلف رئيساً لتصريف الأعمال لفترة غير معلومة، فكيف يمكن وفق التجربة الراهنة، أن ينتظر من المتظاهرين أن يتعايشوا مع هذا النموذج الحكومي الفاقع في سلبيّاته وأخطائه.