حين تمرّ بلادٌ بأزماتٍ هيكلية قاصمة، يواجه النّاس من مختلف الطّبقات صدمة التأقلم مع واقعٍ جديد، أو فهم أن الكثير من «الثوابت» التي كانت تشكّل عالمهم ( أسلوب الحياة، قيمة الراتب والأمور، حسابك الذي راكمته في المصرف) قد تغيّرت بشكلٍ جذريّ، أو هي لم تكن حقيقية من الأساس وقد جاء وقت التفاوض عليها. «السياسة» تبتدئ حين يعي النّاس حجم هذا التحوّل ومدى الخسارة ويعطوه معنىً وتفسيراً، وتتقرر الأحداث الى حدٍّ بعيد بحسب ردود فعلهم وقتئذ.
خيارات لعالمٍ جديد
هذه تجربة لا تطال الفقراء وحدهم في لبنان اليوم. من اعتاد على فكرة أنّه يعتاش ويتربّح من الفوائد على حسابه الراكد في المصرف - وقد كان هذا نمط حياةٍ شائعاً بين أصحاب الأموال في لبنان - هو في عين العاصفة ايضاً. ترحيل الآلاف من العاملات المنزليات الأجنبيات كان من العوارض الأولى لارتفاع الدولار وتغيّر أنماط الحياة التي اعتادها الكثير من اللبنانيين في فترة ما بعد الحرب، حين لم يعد توظيف عمّال منزليين مسألة تقتصر على الأثرياء، أو حتى على الطبقة الوسطى المترفة. على الهامش: كانت الصحافة والمنظمات تخبّر عن تجربة العاملات الأجنبيات من زاوية الظلم المنهجي والتجاوزات التي تتعرضن اليها في لبنان، غير أنّ هناك أوجهاً متعدّدة لهذه الممارسة لم تحظ بالرصد والدراسة. على سبيل المثال كان استقدام العاملات الأجنبيات من الأمور التي سهّلت، في العقود الأخيرة، خروج الكثير من النساء اللبنانيات الى سوق العمل (وبخاصّةٍ حين أصبح توافر دخلين في البيت شرطاً ضرورياً لبناء عائلة في بيروت، أو لتحقيق قدرٍ من المستوى الاجتماعي والاستهلاك). «الأجنبيّة» تقوم بمهام المنزل فيما يذهب الزوجان الى المكتب ويعملان - فيصبح «تحرّر» نساءٍ لبنانيات وتحقيقهنّ للاستقلال المادّي والنجاح مرتبطاً بظلم نساء أخريات وسحقهن واستغلالهن. اليوم، يجبرنا «التصحيح الاقتصادي» على فهم أن بلادنا، بمقاييس الانتاج والتصدير وما يجوز لها أن تستهلك، ليست أكثر ثراءً و«تقدّماً» من سريلانكا بالقدر الذي كنّا نتخيّله.
حتّى موظّف الدّولة من المرتبات المتوسطة وما فوق سيواجه هذا السؤال، وقد أصبحت قيمة راتبه تزيد بسهولةٍ على الألفي دولار شهرياً (أي أكثر من نظيره في العديد من دول اوروبا)، واعتاد نمط حياةٍ يتضمّن سيارة مستوردة وماركات أجنبية وسفراً مع العائلة كلّ سنة الى تركيا وغيرها (ومعه ضابط الجيش الذي ينتظر تعويضاً بنصف مليون دولار في نهاية خدمته). هذه الأمور أصبحت بالنسبة الى الكثير من الفئات «حقوقاً مكتسبة» بصرف النظر عن اسبابها ومدى واقعيتها.
حتى لا ندخل في تفصيلات اقتصادويّة، يمكن القول إنّ الأزمة الحالية هي ترجمةُ لخيارٍ مستحيل وصلنا اليه. بتوصيف أحد الأصدقاء، فإنّ عمل وتحويلات واستثمارات اللبنانيين المغتربين في الخارج كانت - في العقود الماضية - «نفط لبنان»؛ بمعنى أنك لو قسمت كمية الدولارات التي وصلتنا سنوياً عبر هذا السبيل (من غير عملٍ وانتاج داخلي) على عدد المواطنين، لقاربت «حصّة» المواطن العراقي، وفاقت حصّة نظيره الايراني، من تصدير النفط في الفترة ذاتها. ولهذا السبب، بالمناسبة، قد تكون هناك حاجةٌ الى تأميم المصارف أو خلق مؤسسات مالية جديدة لا عن اشتراكية وحبٍّ للمصادرة، بل لأننا نحتاج الى أداةٍ آمنة ومستقرّة لاستقبال تحويلات المغتربين على الأقل. كما مع الثروات الطبيعية، كان من الممكن استغلال هذه الموارد في السنوات الفائتة لتطوير الاقتصاد بشكلٍ صحّي، وتوجيهها الى الاستثمار حيث الاولوية؛ ولكن أكثر هذا المال انتهى في دورة الدّين والفوائد على شكل ودائع في المصارف، أو شقق فخمة في السوق العقاري، أو تمّ انفاقه على الاستهلاك والاستيراد الرّخيص. اليوم، أصبح عليك أن تختار: امّا أن تستمرّ في الحياة التي اعتدتها، أو أن تدفع كلفة الدّين العام المتضخّم، فالاثنان لم يعودا ممكنين معاً. بتبسيط شديد، لا توجد دولارات كافية تدخل البلد لكي تغطّي سندات الدين العام بالعملة الأجنبية، واستيراداً سنوياً بعشرين مليار دولار في الوقت نفسه، والضغط على قيمة العملة هي النتيجة الأولى لهذا الوضع.
إن لم نتمكّن من الاستهلاك والاستيراد تتناقص موارد الدّولة، وإن لم تتمكّن الدّولة من دفع سندات الدّين تنهار البنوك وتضيع أكثر الودائع، وحين تكون الودائع والمصارف في خطر يتوقّف النشاط الاقتصادي وترتفع الفوائد وتقع الدولة في المزيد من العجز. هذه الدّورة لا يمكن أن تُكسر الّا بطريقةٍ من اثنتين، احداهما هي حلّ «صندوق النّقد» الذي يراه الكثيرون في الأفق، ويعتبرون - سواء عبّروا عن ذلك أم لا - أنّه سيكون في نهاية الأمر «الخيار الوحيد». هذا الخيار يعني فعلياً خدمة المصارف والدّين العام على حساب كلّ شيءٍ آخر. «الدّعم الدولي» وضخّ السيولة للمصارف وإعادة الجدولة لن يكون «مساعدة»، بل جزءاً من خطّةٍ لتكريس كلّ موارد الدّولة في المستقبل، ووفر «التقشف» والخصخصة، من أجل الابقاء على نظام المصارف/ تدوير الدّين على قيد الحياة. الهدف هنا لن يكون، كما يتخيّل البعض، ردّ الودائع واطفاء الدّين واراحتنا منه بل ابقاؤه ضمن «حدٍّ مقبول»، يسمح لنا بأن نستمرّ في دفعه الى ما لا نهاية. هذا «الحلّ»، لحسن الحظّ، لا يبدو قادماً بالقدر الذي يتمنّاه البعض، وذلك لأسباب عديدة: من ناحية لأنّه ليس حلّاً، ولأنّ وزير الخارجية الأميركي قد أعلن فعلياً أنه لن تكون هناك حزمة انقاذية للبنان، ولأن المبلغ المطلوب قد يكون هائلاً بالنسبة الى بلدٍ غير مضمون الولاء. قبل ذلك كلّه، لا بدّ أن تنتبه غالبيّة اللبنانيّين، عاجلاً أم آجلاً، الى أنّ الخيار الآخر (أي التوقّف عن دفع الدّين والانطلاق من هنا) هو أكثر مكسباً بكثير (أو أقلّ كلفةٍ بكثير) من أيّ «حزمةٍ» - بسلاسل - يمكن أن يرميها صندوق النّقد لنا.

الفقير وحيداً
في هذه الأثناء، بعيداً عن أصحاب المصارف وشركائهم وكبار المودعين، سائق سيارة الأجرة بجانبي يكلّم زوجته على الهاتف. من الواضح أنّه يحبّها كثيراً، فهو لا يحدّثها الا مرفقاً كلّ جملة بعبارات الحبّ والملاطفة، أو أنّه يشعر بالذنب. يقول: «أخبرني الرّجل ألّا أحضر الى المدرسة وأن لا أقلّ أولاده، ليس معه مال» (السائق يتعاقد مع عائلات لنقل أولادها الى المدارس). بعد أخذٍ وردّ ارتفع صوته «كلّا! لا يمكن أن تعطي نيدو (حليب مجفّف) لطفلٍ رضيع. عمره شهران فقط. لا يجوز!». بعد ذلك أخذ يطلب من زوجته على الخطّ، بل يتوسّل اليها، لكي تتوقّف عن البكاء «أعدك، سوف أحضر الحليب بعد الظهر والباقي مساء، الله لن يتركنا». سائقو التاكسي هم من الفئات التي تعتمد بشكلٍ مباشر ويومي على «السّوق»، وتتأثر فوراً بتقلباته؛ يليها موظفو الشركات الخاصة التي تقفل تباعاً في هذه الأثناء أو تتخفف من أجرائها ومن رواتبهم. وقريباً، يواجه أكثر اللبنانيين واقع الجوع والخطر، وأيّ سياسةٍ لا تنطلق من هنا - ومن هؤلاء - تمثّل في السياق اللبناني الحالي معنى الرجعيّة.
هذه الأمور ليست بديهية ولا تفرض نفسها بنفسها على أجندة السياسة. «العفويّة»، كما قلنا في السابق، لها حدودٌ وفترة صلاحيّة قصيرة، يعود بعدها كل مكوّنٍ الى الالتفاف حول نفسه وأولوياته الخاصّة. كما كتب رائد شرف، فإنّ الناس حين تنزل في احتجاجات، فهي لا تنزل باعتبارها «شعباً جديداً» ولد في لحظته، وهي غالباً لا تنزل «مع» شيءٍ معيّن بل «ضدّ» شيء، وتحديداً للهجوم أو تسجيل النقاط على خصومها («خصومها» هنا، يضيف شرف، بمعنى خصومها الاجتماعيين، وليس الطائفيين ضرورةً). وإن لم يتم بناء دخطوط خصومة» واضحة ترتكز حول مصالح الأكثرية وحول تحديد أعدائها، تصبح الساحة بسرعة «مع الجميع وضد الجميع»، أي غير سياسيّة، أو تنزلق الى اشتباكات الشوارع بين الفقراء.
قرأت نصّاً غاضباً، يشبه الكثير مما ينشر مؤخّراً، لاعلاميّة تصف كيف منعها المصرف من سحب كامل راتبها دفعةً واحدة، وأصبح عليها أن تأخذه على دفعات وتقسيط، وأنها ضحية النّظام و«حكم المصرف». نحن نتكلّم على موظّفٍ في مؤسسة خارجية، راتبه بالدولار، ووظيفته مضمونة (بل ينشط قطاعها في عهد الأزمات)، وهو من القلّة التي دخلها ومعاشها معزولٌ عن الأزمة اللبنانية؛ «القضيّة» الحقيقية هنا هي في الانزعاج، وعدم الحصول على ما تريده حينما تريد. وفي غياب وعيٍ طبقي، يضعك «الانزعاج» في موقع مظلوميّةٍ موازٍ لمن خسر عمله ولا يقدر على إطعام أطفاله، ويقنعك بأنكما في المرتبة ذاتها وتثوران على الأمر نفسه. بدلاً من أن يكون محور السياسة هو معاناة اللبنانيين الذين يسقطون يومياً في هوّة الفقر، نعود الى فكرة أن الجميع سواسية في محنتهم، وأنّ خلل النظام هو في «السرقات»، وهي موجودةٌ في مكانٍ ما وتكفي استعادتها لحلّ الأزمة - ونتعامل مع تفاقم الفقر والمشاهد المحزنة المتواترة عبر حملات التبرّع بالملابس وحلقات التلفزيون وفكرة «الاحسان» (التي، كما يقول جيجك، هدفها ليس تغيير المجتمع بل اعطاؤك شعور الاكتفاء بأنّك «فعلت ما عليك» تجاه الأقل حظّاً).
يجب أن نتذكّر هنا أنّ الكثير من اللبنانيين لا يملكون حسابات مصرفيّة أصلاً، وأكثر من لديه حسابات يستخدمها حصراً لاستقبال راتبه في مطلع كلّ شهر ودفع أقساط القروض. وأكثرية اللبنانيين ليست لديهم ودائع بمئات آلاف الدولارات أو الملايين يخافون على مصيرها، بل همّهم اليوم هو في توفير أساسيات الحياة (أعرف شخصاً يعرف شخصاً ثريّاً حقّاً. يمتلك عشرات أو مئات ملايين الدولارات. تبيّن أنّه قد وضعها كلّها، بلا استثناء، في حسابات في لبنان لتحصيل الفوائد المرتفعة. لم يفكّر حتّى في فتح حسابٍ خارجيّ يركن فيه مليوناً أو مليونين لحالة طوارىء. هي أزمةُ كان في أصلها الطمع والجشع، و«السياسة» اليوم هي في أن تختار من هو الضحيّة هنا ومن مصالحه أولى من غيره).
من غير وعيٍ وتنظيم، يكسب الأقوى دائماً وتكون أولوياته هو في المقدّمة. المفارقة هي أنّ الكثير من الناشطين في عالم اليوم (شرقاً وغرباً)، يعلون من شأن الفردانية و«الحرية المطلقة»، ويبنون هويّتهم على التمايز والاختلاف. ولكنّ التجربة تعلّمنا أنّ الانضباط والتنظيم وتوحيد الأولويات (أي فكرة «القطيع» المرذولة تحديداً) هي ما يسمح لفئاتٍ ضعيفة بأن تعبّر عن نفسها في وجه القوّة. «الشعب» ليس شعباً حتّى يمتلك ثقافة ووعياً مشتركاً، تغرسه فيه مؤسسات «ضابطة». «الطّبقة» لا تصبح طبقة حتى توحّد وعيها وجهودها وتتمثل في كيانات مادية فاعلة. وصولاً الى قول غرامشي بأنّ «الجماهير ليست موجودةٌ سياسياً إن لم تكن مؤطّرة». في غياب «قطيعٍ» تنتظم فيه الكثرة، يوحّدها ويوجّهها سياسياً، سيحكم ببساطة من يمتلك المال وأدوات الانتاج والإعلام، بغض النظر عن أقلويته أو أحقيته.

افلاس الأسياد
تثبت الاجراءات الأخيرة في حقّ عموم اللبنانيين بأن البلد لا يزال تحت حكم المصارف ومن خلفها. تحديد السحب وتقنينه حتى على الحسابات الصغيرة جدّاً، وهي لا تمثل الّا مقداراً ضئيلاً من مجمل الودائع، وتحميلها كلفة تحويلٍ باهظة وتنفيذ «قصات شعر» غير مباشرة على أرصدتها وشيكاتها، هو مؤشّرٌ غير مطمئن على سلّم الأولويات لدى من يدير الأزمة. في المؤتمر الصحافي الذي عقده منذ أكثر من شهر، شرح رياض سلامة أن قراراته واجراءاته تحرّكها «مصلحة لبنان»، وهنا المشكلة تحديداً، أي في تعريف هذه الفئات للمصلحة العامّة، وفي ترك هذا الأمر في أيديهم حين يكون أساس معاشنا على المحكّ - و خسارة الثري لا يجب أن تكون أعلى صدىً من جوع الفقير.
المفارقة أنّ الناشطين يعلون من شأن الفردانية وتعلّمنا التجربة أنّ الانضباط وفكرة «القطيع» هي ما يسمح لفئاتٍ ضعيفة بأن تعبّر عن نفسها في وجه القوّة


في كلّ الأحوال، المؤشرات واضحة حول مسار الانهيار. النّاس تعجز عن دفع أقساطها للمصارف، والبعض الآخر يرفض الدّفع، وهنا لا يمكن لأحد أن يلومهم، فالمصارف هي من ابتدأ بالاستنساب ونقض العقود (أستغرب حين أصادف أحداً لا يزال يدفع أقساطه للمصرف بانتظام في هذه الأيّام). والهندسات الماليّة الأخيرة، وفكرة رسملة المصارف من ودائعها، لن تشتري سوى القليل من الوقت، وتزيد من الهوة بين السوق اللبناني والخارج. مفاوضاتٌ تجري خلف الكواليس لبيع مصارف قبل انهيارها وقبل أن تعلنها وكالات التصنيف في حكم المفلسة. كما يلفت بعض الاقتصاديين، فإنّ هناك فارقاً بين احتياطات المصرف المركزي المعلنة وبين تلك «القابلة للاستخدام»، ما قد يجعل مشكلة الاستيراد وتمويله أقرب مما نظنّ (وحسابات المصرف المركزي، في ذاتها، فيها ألغازٌ قد تنكشف عن مفاجآت سيئة في المستقبل). أمّا الإعلان الأخير لوزير المالية بأنّ عائدات الدولة تتهاوى فيلغي أيّ احتمالٍ لتعافٍ أو استقرار للنمط القائم.
لا أحد يعرف الى أيّ مدىً ستذهب الأزمة ولكنني أعرف أن من يؤمن بامكان السيطرة عليها، أو التحكم بها أو استغلالها، لن يجد المهمّة سهلة. في المقلب الآخر، هناك من يحاجج بأنّ رياح الأزمة قد تعيد النّظر في وجود لبنان من الأساس. المسألة فيها نظر: «علّة وجود» لبنان، في بداياته، كانت في وجود كيان سياسي فيه غالبية مسيحية، ودولة موالية للغرب في الشرق الأوسط. هذا السياق انتفى منذ مدّةٍ، وظلّ ما «يميّز» لبنان فعلياً ويفصله عن محيطه - عدا عن حروبه الداخلية - نظامٌ مصرفي وماليّ يدمجه في السوق العالمي بطريقةٍ محدّدة، تنتج «نموذجاً» اقتصادياً خاصّاً - قامت عليه «صيغة لبنانية». حين ينهار النموذج وينكسر القطاع المصرفي، الذي يزيد عمره عن عمر الوطن، فماذا يتبقى من معنىً وسببٍ وظيفي للكيان؟ حين يعود لبنان مجرّد بلدٍ من العالم الثالث فقيرٍ بالموارد، لا يمتلك بنية صناعيّة وانتاجية ويحتاج قبل أي شيءٍ الى الغذاء والطاقة والأساسيات، ألا تصبح الحدود - للكثير من اللبنانيين - عبئاً بعد أن كانت «امتيازاً»؟
المصارف وأصحابها وشركاؤهم قد أداروا شؤون الوطن اللبناني منذ تأسيسه وتسيّدوها. هذا هو معنى «الاوليغارشيا». في التراث اليوناني القديم نصٌّ سياسيّ يكنّى صاحبه بـ«الاوليغارشي القديم» (نُسب النص زوراً الى الفيلسوف زينوفون لفترةٍ طويلة). يهاجم الاوليغارشي المجهول ديمقراطية اثينا بعد اندثارها ويحذّر من تكرار التّجربة؛ ويصف بفزعٍ كيف أنها قد ساوت الفقير بالملّاك، ووضيع الأصل بالارستقراطي، ضمن مشروعٍ عسكريّ جماعيّ قلّص الفوارق بين الاثينيين (وهو كان مشروع الامبراطورية البحريّة الذي حشّد من أجله وأشرف عليه القائد الأثيني بريكليس). «أصبحنا عبيداً لعبيدنا»، اشتكى الاوليغارشي مستذكراً تلك المرحلة، قبل أن يتمّ تقويض الديمقراطية - بفعل هزيمةٍ وغزوٍ خارجي - ويحلّ الأسطول الأثيني، ويعاد تنصيب الأرستقراطية الملّاكة في الحكم. وسط الانهيار الحاصل في لبنان، يحاول «الأسياد» اليوم إعادة تكوين سلطتهم أو إعطاءها رداءً جديداً وتجديد عقد العبودية الذي يربطهم بـ«صغار المودعين»، والبلد الذي بنته البنوك لن يصبح وطناً قبل أن تنقلب الآية، ويعرف هؤلاء معنى أن يصبحوا «عبيداً لعبيدهم».