لم تهدأ المخيّمات الفلسطينية حتى تنتفض الآن. منذ أشهر، ومخيّمات اللاجئين الفلسطينيين تضجّ بالاعتصامات والتظاهرات والتحرّكات الشعبية اعتراضاً على خطّة القهر التي نفذّها وزير العمل كميل بو سليمان بحق العمالة الفلسطينية والسوق اللبناني، عن سابق إصرار وتصميم، بحجة حماية اليد العاملة اللبنانية، وعلى وقع تقليص خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا». وفيما كان بو سليمان، وزير القوات اللبنانية المستقيل، يزداد تعنّتاً في رفض التراجع عن خطواته، وقف الساسة اللبنانيون يتفرجّون، واحد مزايد وواحد منافق، وآخرون أغرقوا الفلسطينيين بالتضامن والبيانات. القهر عند اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أوفر من الخبز والكهرباء والماء النظيف، ومن الأمن والأمان والكرامة.إلّا أن حظّ الفلسطينيين العاثر، مع لبنان تحديداً، جعلهم يتنبّهون عند أي اهتزاز لبناني، حتى لا تطلع «فشّة الخلق» بهم. وهكذا فعلوا مع بدء الحراك الشعبي منتصف الشهر الماضي، فالتزموا مخيماتهم يترقبّون المصير.
وإن كان على اللبنانيين أن ينتفضوا قبل ذلك بسنوات، فإن جرعة الأوكسيجين الواحدة في المخيّم، بين ألواح الزينكو وأسلاك الكهرباء المتشابكة، والزواريب التي لا تتسّع للظلال، والأنروا التي تعطي الفلسطينيين من «الجمل إدنه»، وقيادة «أبو الغضب» و«أبو اللهب» الحكيمة لشؤون اللاجئين، تكفي لأن يثور كل لاجئ على عدد أنفاسه، ليحرق أصنامه... وأصنام غيره.
خلال الأيام الماضية، بدأت تنتشر في المخيمات دعوات للتظاهر ضد فساد وكالة «الأونروا»، كان آخرها دعوة للتظاهر صباح أمس، من دون أن يتجاوب الفلسطينيون معها. هذه الدعوات، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وهي إن كانت الآن موجّهة ضد الأونروا التي مرّت في الأمم المتحدة قبل أيام بـ«قطوع» كبير، فإن المتوقّع أن تتطوّر خلال الأسابيع المقبلة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والشح المالي والبطالة القاتلة التي ازدادت بشكل واسع في المخيمات مؤخّراً، حتى صار العوز صندوق بارود على وشك الانفجار.
فساد الأونروا ومعها وجوه بارزة في المخيمات من قيادات الفصائل الفلسطينية، من دون تعميم، جمعتها المصالح الشخصية والفردية مع الوكالة الدولية، بلا شكّ عنوانٌ مغرٍ للفلسطينيين. فهم، من حقّهم أن يلوموا، الآن، ليس المسؤولين عن نكبتهم الأولى فحسب، بل أولئك المسؤولين عن قوتهم اليومي على الأقل، من الأونروا، إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وسائر الفصائل، إلى الدولة اللبنانية، التي لم تكن مسؤولة يوماً عن مواطنيها، حتى تتحمّل مسؤولية الفلسطينيين على أراضيها.
غير أن كلّ هذه الأسباب لا تنفي أن مخيّمات لبنان، الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، باتت تحت المجهر الدولي، بعد أن اكتمل جدول أعمال صفقة القرن في الجغرافيا، من القدس إلى الجولان والضفة وغور الأردن، ولم يعد من شاهد على التهجير خارج فلسطين، بعد أردنة الفلسطينيين ودمار اليرموك، سوى الأونروا ومخيّمات لبنان.
قبل أسبوعين، نجح الأوربيون بدعمٍ روسي وآسيوي بشكل عام، في حماية وكالة الأونروا وتجديد مهمتها لثلاث سنوات، بعد العاصفة التي أصابتها مع مديرها العام السابق بيار كريننبول الذي أقيل لينسحب من المشهد، إثر تهم فساد وجّهت إليه. هذا النجاح الأوروبي، المردود إلى خشية فعلية من موجات لجوء فلسطينية إلى أوروبا، قابل الضغوط الأميركية والإسرائيلية لمنع التجديد للوكالة، بعد قطع الأميركيين الأموال عنها وإعلان ترامب أنها «مؤسسة غير قابلة للإصلاح».
من هنا، يبدو التظاهر ضد الأونروا، وهو محقّ، ضرباً في ميت، لن يقدّم أو يؤخّر الانتفاض ضدّه، سوى تسعير المخيمات وفتحها على خيارات مجهولة/معلومة. في الوقت الذي تنتظر فيه الفصائل الفلسطينية، على اختلافها، أن تتطوّر المطالب لتصبح «كلن يعني كلّن» موجّهة للفصائل، وإسقاطاً لدور الأونروا، أو ما تبقى منه، بالتوازي مع مطالبات مجموعات وأفراد فلسطينيين، تحديداً من فلسطينيي المخيمات السورية الذين نزحوا إلى لبنان، باستبدال وصاية الأونروا بمفوضية اللاجئين «UNHCR»، ودعوات الهجرة الناشطة هذه الأيام.
البحث عن محركّي التظاهرات ضد الأونروا ليس بالأمر السهل كما كان الحال أيام التظاهر ضد قرارات بو سليمان، وإن كانت بعض الوجوه الشبابية باتت معروفة في مخيمات الشمال تحديداً. وبين هؤلاء من يرتبط بمنظمات غير حكومية مدعومة أوروبياً وأميركياً وعربياً، وبينهم أيضاً ناشطون وحزبيون ينتمون إلى الفصائل، كل الفصائل، من فتح إلى الجبهة الشعبية - القيادة العامة.
هل يُلام الفلسطينيون؟ لا طبعاً. لكن هل يوصل «الحراك» ضد الأونروا إلى خواتيم سعيدة؟ لا طبعاً. هل تحرّكت الفصائل لتعلن حالة طوارئ لمواجهة المقبل على المخيّمات انعكاساً لتطورات الإقليم وما يحصل في الداخل اللبناني؟ لا أيضاً.
بدل ذلك، تتلهّى الفصائل، في لبنان، في تعميق الانقسام. فبين رام الله وأبو ظبي حرب بيانات واتهامات بالوقوف خلف الدعوات للتظاهر، وبين حماس وفتح تجاذب على ساحات المخيمات، لا يزال مضبوطاً بفعل التوترات اللبنانية، وإرباك يطغى على تعاطي الجميع مع المرحلة المقبلة، فيما عادت التسريبات الهادفة لـ«دعشنة» المخيمات أمام الرأي العام اللبناني من جديد.
ولعلّ الأخطر في كل ذلك، هو المطالبة فعلاً بانتقال الوصاية الدولية من الأونروا إلى مفوضية شؤون اللاجئين. «إنه الوقت المناسب للرحيل عبر طلب اللجوء الإنساني والهجرة... أوليست هذه اللحظات المثاليّة لفعل ذلك؟» تسأل اللاجئة الفلسطينية، آمال دياب. تتخوف دياب، التي تنشط في «الهيئة الشبابية للجوء الإنساني والهجرة من مخيمات لبنان»، من احتمال ذهاب الأمور في البلد الذي تشهد ساحاته منذ أكثر من شهر احتجاجات شعبية، إلى نقطة اللاعودة. إلى مكان الانفجار الحقيقي الذي لا بد أن تطال اللاجئ الفلسطيني «طرطوشة» منه، كما تقول. مع ذلك، السيّدة التي ولدت قبل حوالي 45 عاماً في ليبيا لأبٍ فلسطينيٍ وأم لبنانية، وبقيت إلى الآن لاجئة رغم زواجها مرتين من أجنبيين لانها لم ترغب إلا في أن تبقى فلسطينية، تشرح أنها تزور «الأخبار» لأنه «بصراحة الوقت المناسب لتحريك ملف الهجرة واللجوء». وتوضح أن «الهيئة» جمّعت أكثر من 80 ألف طلب للاجئين فلسطينيين (ضمنهم عائلات وأطفالها) وقدمتها إلى سفارتي كندا وأوستراليا! وتتضمن طلبات هؤلاء اللاجئين رفع وصاية «الأونروا» عنهم وتحويلها إلى وصاية المفوضية العامة للاجئين.
على ضوء الظروف التي يمر بها لبنان منذ سنوات قد يُنظر إلى محاولات الهجرة الفردية - الجماعيّة المتكررة على أنها «طبيعية»، إلا عندما يتضح من الأرقام أن ما بين 40 - 45 ألف لاجئ فلسطيني خرجوا بصورة شرعية من مطار لبنان إلى «بلاد الاغتراب» ولم يعودوا. هؤلاء باعوا، على مدى السنوات الأربع الماضية، كل ما يملكونه في المخيمات، ودفعوا بثمنه «تزبيط هجرتهم» لجيوب السماسرة، الذي يصولون ويجولون من دون أن تحرك الاجهزة الأمنية اللبنانية ضدّهم ساكناً، ولا الفصائل طبعاً!
في التعريفات التي تقدمها «الأونروا» حول عملها يتضح أنها «تعمل تحديداً مع لاجئي فلسطين في مناطق عملياتها الخمس وهي الأردن ولبنان والجمهورية العربية السورية والضفة الغربية وقطاع غزة». أمّا دورها فيشتمل على «تقديم المساعدة والحماية وكسب التأييد العالمي للاجئي فلسطين». أمّا المفوضية السامية لشؤون اللاجئين فيتمثل دورها «في توفير الحماية الدولية للاجئين في أنحاء العالم عندما تسمح الظروف السياسية بذلك». إضافة إلى ذلك، فإن الوكالة التي تأسست عام 1949، استثنت لاجئي فلسطين بصورة خاصة ومقصودة من نظام القانون الدولي للاجئين عام 1951 لأنهم يتلقون المساعدات من «الأونروا».
لم يعد من شاهد على التهجير خارج فلسطين، بعد أردنة الفلسطينيين ودمار اليرموك، سوى الأونروا ومخيّمات لبنان


التعريف العملياتي للاجئ من فلسطين، كما تحدده «الأونروا»، هو الشخص الذي «كانت فلسطين مكان إقامته الطبيعي خلال الفترة ما بين 1 حزيران 1946 وحتى 15 أيار 1948 والذي فقد منزله ومورد رزقه نتيجة الصراع الذي دار عام 1948». كما يرد أيضاً أن التعريف السابق «يشمل أولئك المنحدرين من صلب الآباء (الفلسطينيين) الذين ينطبق عليهم ذلك التعريف». أمّا المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) فيختلف تعريفها؛ وبحسب الوثيقة رقم «GIP/HCR/17/13»، فإنها تعرّف اللاجئ بأنه كل من «خرج من الحدود الدولية للبلد الذي يحمل جنسيته وتعرّض للاضطهاد ولم يعد يتمتع بحماية حكومته».
«الهيئة» ترفض التشكيك بنواياها، مصرّة على أن ما تدعو إليه إنما هو لـ«دوافعٍ إنسانية محض». يشرح محامي «الهيئة»، كمال عقل : «إننا لاجئون مسلوبو الحقوق ولا أمل لنا في نيل حقوقنا المشروعة في هذه الحقبة خاصة أن مجلس النواب اللبناني موافق على القوانين المرعية للاجئ الفلسطيني. وعليه فإننا نختار اللجوء الإنساني، مفضلين الابتعاد ما أمكن عن التجاذبات السياسيّة اللبنانية». وعندما يُسأَل: إذا رفعت «الأونروا» وصايتها عنكم، وصرتم تحت وصاية «المفوضية» فلن تعودوا لاجئين فلسطينيين وبالتالي يسقط عنكم حق العودة فلا يوجد بلد أصل (في تعريف المفوضية) حتى تعودو إليه هل أنتم مدركون لذلك؟ يردّ: «ماذا فعلت (اتفاقية) أوسلو بحق العودة؟».
لم تكتفِ الهيئة برفع رسائلها وطلبات اللاجئين الفلسطينيين إلى سفارتي كندا وأستراليا، بل فتحت أيضاً «خطاً» مع الأحزاب اللبنانية. وبحسب عقل فإن «الهيئة عقدت اجتماعات مع كافة الأحزاب اللبنانية، من بينها حزبا القوات والكتائب، وأطلعتها على مطالب الهجرة. كما أن جميع الأحزاب اللبنانية دونما استثناء أبدت تأييدها لمطالب الهجرة»!