يقول البعض إن المحتجين في الساحات، أو في ساحات بيروت أقله، هم من «جماعة السفارات»، للتشكيك في الحراك ككل وتخويف المترددين من الانضمام اليه. قد يكون الهدف من النعت هذا تخوينيّ بحت. لكن هذا التوصيف لشريحة من المحتجين هو أشمل ممّا يتصوره المخوِّنون أنفسهم. فإن كان هناك أي شيء عابر للمناطق والطوائف في لبنان فهو السفارات. أطّلع دورياً كغيري من العاطلين من العمل على الرسائل التي ترسلها الجامعات إلى طلابها ومتخرّجيها وعلى المواقع التي تنشر الوظائف المعروضة في سوق العمل المحلية لأصحاب الشهادات الجامعية، وجلّ هذه الوظائف معروضة من قبل منظمات غير حكومية عالمية وصناديق دعم هذا وذاك والمنظمات المنضوية إلى سقف الأمم المتحدة. في ظل غياب تام للدولة اللبنانية عن خلق الوظائف والتخطيط الاقتصادي ودعم القطاعات التي يمكنها أن تستوعب المتخرجين، تملأ هذه المؤسسات الفراغ التي تركته الدولة اللبنانية المتنصلة مِن مسؤولياتها وتستقطب مَن اختار ألاّ يهاجر مِن الشباب، أو مَن لم تتح له فرصة الرحيل حتى الآن.بالتالي هناك جيل كامل من الشباب يعتاش بشكل شبه مباشر من تمويل السفارات، ويتصبّب عرق جبينه في خدمة أجنداتها، لأن ليس لديه خيار آخر. وهذا الأمر لا يقتصر على العاصمة بيروت. قمت منذ فترة بجولة عمل (على نفقة منظمة دولية طبعاً) على مناطق عديدة على امتداد الوطن، من قرى نائية في سلسلة جبال لبنان الشرقية إلى سهول البقاع الشمالي القاحلة وسهل عكار الأخضر. أينما تذهب ترى أعلام كندا وأميركا وألمانيا واتحادها الأوروبي إلى جانب لوغوات منظمات ما هبّ ودبّ (ونهب وضبّ) على يافطات ولوحات لمشاريع ترويجية وترويضية أكثر مما هي إنتاجية، لكنها مع ذلك توفر فرص عمل للعديد من أهالي تلك المناطق وضيوفها من النازحين، وتضعهم تحت رحمة إنسانيي التمويل السفاراتي. وهنا لا يمكن تخوين كل الشعب، إذ إن الخيانة ارتكبتها دولة اقتصاد السوق الحر بحق الشعب وليس العكس.
كتب أحدهم على جدران وسط بيروت المحتل «يسقط الـProposal» وهو طلب التمويل الذي إن أتقنت فن كتابته تُفتَح لك صناديق كنوز وكلاء الاستعمار الجدد. في حقبة سابقة من حياتي، قررت مع مجموعة من الرفاق الحصول على تمويل من إحدى الوكالات الاستعمارية لمشروع علني، واقتطعنا جزءاً منه لتمويل نشاطات سياسية غير علنية، وذلك على قاعدة أن نحاربهم بأموالهم. طبعاً كنّا سذّجاً، إذ إن ما يتكرّمون علينا به هو أصلاً منهوبٌ منّا، ويمنحوننا من جَمَل النهب أذنه بشروطٍ مكبِّلةٍ و«تربيح ألف جميلة».
فن كتابة طلب التمويل يعني أن تعرف أولويات المستعمِر المانح وتخاطبه من خلالها. أنت بالفعل تشحذ المال وتدعو للمانح بالعريس إذا كان برفقة حبيب، أو بالنجاح إن كان يحمل حقيبة مدرسية، أو بالصحة إن كان خارجاً من مستشفى. عليك أن تعرف نقطة ضعف المانح وتتذاكى عليه ليمنحك المال، وبعدها تنتفع مع زمرتك وتقوم بالحد الأدنى من العمل لإظهار أن المال يستعمل كما يجب ولا يذهب سدى، وذلك لضمان تجديد التمويل في العام التالي. توجد أمثلة كثيرة حولنا، إذ ترى جمعيات تعمل على قضايا لسنوات عديدة يتم إنفاق ملايين الدولارات خلالها من دون إحراز أي تقدّم يذكر في القضية المتبناة، كما يحصل مع كمّ الجمعيات التي تعمل على السلامة المرورية على سبيل المثال. بل من الأفضل أن تبقى القضية غير محلولة لضمان المدخول لفترة أطول، فمن يستحق التمويل أكثر من المناضل الذي راكم سنين نضال عديدة في القضية ذاتها؟ طبعاً عليك التميّز عن غيرك في فن طلب التمويل مع تطور السوق وازدياد المنافسة، فتجد من يبتدع قضايا، مثل قضية تمويل شارع نموذجي جميل يمتدّ لعشرات الأمتار مع أحدث التجهيزات في الإنارة ومستوعبات النفايات، لكن سرعان ما يتهالك، لأن البلدية الموكل إليها صيانته لا تملك الإمكانات أو المعدات المطلوبة لذلك، أو مزرعة للزراعات البديلة في راس بعلبك تفتخر بزراعة الأعشاب العطرية في الوقت الذي تغيب فيه معامل استخراج زيوت هذه الأعشاب من بعلبك والهرمل وسائر المشرق، فينتفي أريجها مع جفاف التمويل أو انتقاله إلى مشروع بديل آخر. إذاً هذا جنسٌ حربوقٌ من منتفعي السفارات الذين لا نفع لهم رغم ترويجهم الذاتي اللامتناهي، لكنهم ليسوا خونة، وهم موجودون أصلاً نتيجة خيانة الدولة للشعب. الكثير من المنخرطين في هذه المشاريع التنموية يجب أن يكونوا من جماعة الدولة وليس السفارات، وأن تكون خبراتهم في خدمة البلد لا الذات، لكن مرة أخرى الدولة غائبة ومتخاذلة.
التذاكي والحربقة لا يؤديان إلى انتفاع ماديّ فحسب، بل أيضاً إلى ترويج أدبيات المانح المستعمِر


لكنّ للتذاكي حدوداً؛ ففي فن طلب التمويل بعض التبنّي لأولويات المانح، ويظهر ذلك بوضوح أكثر عندما يخص التمويل الفنون والصحافة والنشاط المدني (غير السياسي طبعاً). وهنا خطر السفارات أكبر، إذ إن هذه القنوات تعمل بشكل رئيسي على تكوين الوعي السياسي للمتلقّي. هنا التذاكي والحربقة لا يؤديان إلى انتفاع مادي فحسب، بل أيضاً إلى ترويج أدبيات المانح المستعمِر في خطابنا الفني والسياسي، وإن كان بعضها محقاً ويتماشى مع تطلعات «الشعب».
المطالبة بوقف الفساد والحريات الفردية وحقوق الأقليات والمساواة في المواطنة وغيرها من البديهيات في القرن الحادي والعشرين، محقّة طبعاً. لكن عندما تصبح هذه المطالب مرتبطة عضوياً بالمصالح الاقتصادية الاستعمارية وأولويات مسلوخة عن سياسة تحررية كاملة، حينها لا تصلح هذه المطالبات إلاّ غطاءً لإعادة إنتاج سلطة بثوبٍ أنظف وسياسات أوسخ من سابقتها. عندما تركز غالبية الأعمال الفنية المموّلة من صناديق الدعم الأوروبية على الهويات الأقلوية والتميز الفردي، وتسلخ النخبة عن المجتمع وتجول في العالم قبل أن تعرض في لبنان لأنها لا تعني أهله، يظهر بوضوح أكبر كيف أن الارتهان لتمويل السفارات مشكلة كبرى يجب التصدي لها. هذا الارتهان ليس وظائف وانتعاشاً اقتصادياً في المدينة والأرياف، بل هو ثقافة شحاذة وتسوّل وخضوع. لكن هنا أيضاً لا يجوز استسهال التخوين، إذ إن الدولة مقصّرة بحق فناني البلد أيضاً، رغم أن من واجب الفنان المثقف أن يكون واعياً وموعّياً.
أما في ما يخص مسألة التمويل الصحافي والنشاط السياسي (المدني)، فهنا يتقلّص الهامش بين المنتفع المتذاكي أو الساذج والمتآمر الواعي لأفعاله. هنا، أن تكون مقتنعاً بثقافة التسوّل والدونية للمانح الناهب، ولا تسائل منظومة المصالح المهيمنة عالمياً، وتعتقد أن سبيل النجاة والصعود من القعر هو عبر التماهي معها، فذلك لا يجعلك خائناً بل مستعمَراً أحمق. أما إن كنت مدركاً تماماً أنك أداة لتكريس هيمنة تُفقِر شعبك وتُخضِعه وأنت تنتفع منها يميناً ويساراً وتفصّل مواقفك استنسابياً للترقّي في المنظومة، إما لإشباع جشعك أو لحقدك على أبناء شعبك، فأنت «خائن ونصّ» واحتقارك واجبٌ ثوريٌ.