التخبط الذي تعيشه الكنيسة المارونية حيال ما يحصل في الشارع، مثير للقلق، في خلفياته، ليس لأنه يحصل في ظل القيادة الحالية للكنيسة المعروفة أصلاً بتخبط مواقفها وتغيّرها وفق الظروف، بل لأن انعكاساته على المجتمع تثير الكثير من الالتباسات.يمكن بعض الضالعين في تاريخ الكنيسة أن يضعوا هذا الموقف في خانة التوافق مع أدائها في بعض محطاتها السود، ووقوفها ضد الثورات الشعبية كما في فرنسا ودول أوروبية، وإلى جانب ديكتاتوريات عسكرية كما حصل في الأرجنتين لعقود. فعلى عكس موقفها في البرازيل، حيث ظلت الكنيسة الكاثوليكية الى جانب ضحايا الحكم العسكري وسقط لها شهداء كهنة وراهبات ورهبان، غطت الكنيسة في الأرجنتين ارتكابات العسكر، وبقيت لطخة الوقوف ضد المتظاهرين تلاحق أساقفتها وكرادلتها، ومنهم البابا الحالي فرنسيس الذي تعرض لحملة تشهير عن فترة حبريته فيها. ويمكن أن يكون هذا الجانب من تاريخه قد ساهم في محاولته تلميع صورته البابوية ووضعه أسساً ثورية في الكنيسة من دون الوصول الى نهايات مضيئة. خلا موقفه في 27 تشرين الأول عن «الشباب اللبناني الذي أسمع صرخته»، لم يتطور موقف الفاتيكان ولم نسمع كلاماً صريحاً لسفارته في لبنان عن نظرة الفاتيكان الى المتظاهرين ومشكلاتهم المؤثرة على مستقبلهم. ثمة معلومات تحدثت عن خلفية فاتيكانية، وضغط أساقفة معروفين بنظرتهم الواقعية، وراء البيان الأول الذي صدر من بكركي ولاقى ترحيباً من جانب مؤيدي التحرك الشعبي، لأنه ينسجم مع روحية المجمع الماروني الثاني حول عمل الكنيسة الاجتماعي. لكن سرعان ما شهد موقف الكنيسة، في عظات ورسائل وتصريحات، ارتباكاً وتدهوراً في النظرة الى التحرك الشعبي وعكس حجم الاهتراء الداخلي على مستوى المؤسسات والقيادات الكنسية سياسياً وفكرياً ولاهوتياً واجتماعياً. وتجلى ذلك في التعامل تصاعدياً مع نوعية الأنشطة التي يقوم بها المتظاهرون وقطع الطرق، وصولاً الى المواقف التربوية وأداء المدارس الكاثوليكية.
ما يحصل في الشارع ليس انقساماً سياسياً بين قوى 8 و14 آذار، كما حصل عام 2005، وليس انقساماً بين مناصري العماد ميشال عون والقوات اللبنانية عام 1989. ما يجري منذ 17 تشرين الأول، حركة شعبية مبنية على أسس مطلبية اقتصادية واجتماعية، لكن الكنيسة تعاملت معها بصورة رمادية، وكأن مواقفها المبهمة ذريعة كي لا تتهم بأنها منحازة الى فريق سياسي مسيحي ووطني. لكنها واقعياً تصرفت مع الحدث الشعبي على أنه موجّه حصراً ضد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون فأرادت الوقوف الى جانبه، على غرار ما جرى مع الرئيس إميل لحود. لكن ظروف اليوم مختلفة تماماً ونوعية التظاهرات مغايرة بمطالبها وحيويتها وجمهورها. إضافة الى أن أسلوبها في التصويب على المتظاهرين جعلها في طريقة غير مباشرة تنحاز حكماً الى مواقف التيار الوطني الحر بصفته حزب العهد، وهو أمر لم يكن لحود يملكه. وموقفها لم يأت ضد طرف سياسي ما، إنما ضد الجامعيين والطلاب والعمال مهما كانت هويتهم ومهما كان نوع احتجاجهم. وساهم في تعزيز هذا التوجه، منذ الانتفاضة، ارتفاع أصوات بعض الأساقفة المعروفين بوضوح توجّهاتهم الحزبية، والذين يضغطون في أبرشياتهم ومع الكهنة وفي مؤسساتهم التربوية وفي الدوائر الكنسية واللقاءات التي يجرونها للترويج لفكرة حماية العهد وتياره، لأنهما مستهدفان في الحملة الشعبية الحالية. وينطلق هؤلاء من مقاربة تتعلق بخطاب التيار الوطني في «الحفاظ على الحقوق المسيحية في الإدارة العامة واسترجاع الوظائف المسيحية لأصحابها، وبالدفاع عن حقوق المهجرين المسيحيين» وعناوين مسيحية أخرى، وبأن العهد يمثل الشرعية التي استعادها للمسيحيين بعد أكثر من فراغ رئاسي. لكن الواضح من أداء وممارسات رجال في الكنيسة محاولة غلبة طرف سياسي على آخر، معزز بأن التظاهرات وأعمال قطع الطرقات طاولت مناطق مسيحية، وبأن المدارس الكاثوليكية معنية بفتح أبوابها ليس لأسباب تربوية فحسب، إنما أيضاً لأسباب تتعلق بدورة الحياة الاقتصادية الداخلية، من تحصيل أقساط وتأمين رواتب المعلمين وهكذا دواليك، ما يجعل الموضوع المالي واحدةً من الأولويات الحالية، وليس التضامن مع الحالة الشعبية العامة. تتعامل الأوساط الكنسية مع التظاهرات على أنها حالة سياسية وليست مطلبية ــــ اجتماعية. وما لم تدركه هو أنها تساهم بذلك في تعزيز الانقسامات السياسية التي عادت تشهدها العائلات المسيحية كما في التسعينيات وفي شكل أكثر حدة من السابق، وبدعم من شخصيات حزبية معروفة. وتتعامل مع حالات الفقر المتنامي، بخلاف نظرة تاريخية لبعض الأساقفة التقليديين، ومن ذوي العمل الاجتماعي البحت، المحاولين عبثاً مع بعض المفكرين في الكنيسة المارونية تغليب فكرة الوقوف الى جانب الحركة الشعبية الحقيقية، في ظل قاعدة معلومات تتعلق بواقع الشباب اللبناني وارتفاع الهجرة والبطالة وانسداد الأفق المعيشي أمامهم، بصرف النظر عن أي قراءة سياسية تخص أي طرف حزبي مسيحي أو غير مسيحي. ورغم أن الكنيسة معروفة بعلاقتها الطيبة والوثيقة بكبار المصرفيين وأصحاب الرساميل، والمعنيين مباشرة بالأزمة الحالية، ويفترض أنها تعرف منهم حقيقة الوضع المصرفي والمالي السيئ والمقبل على تدهور أكثر، إلا أنها تتصرف وكأن ما يجري غيمة صيف، وأنه مجرد تطويق سياسي للرئيس الماروني وللحزب الذي يقف وراءه، لا أكثر ولا أقل، بدل التضامن مع مجتمعها وشبابها بلا أي انتماء حزبي. وهو أمر سيضاف الى سجل أخطائها التي أصبحت أكثر من أن تعدّ وتحصى.