يبدو أننا دخلنا في مرحلة متقدّمة من استسهال التخوين والتخوين المقابل. فكما يخوّن بعض المتحمسين في جمهور المقاومة المشاركين في التظاهرات، يسعى بعض المتظاهرين الى تخوين كل من لا يتوافق مع آرائهم.هذا النص يتضمن ثلاث ملاحظات يرجح ان يعدّها الطرفان «مشبوهة». وليس في ذلك سعي الى التمركز في الوسط بين أطراف مختلفة ومتصادمة، بل محاولة لفتح آفاق النقاش بحثاً عن رؤية واضحة وواقعية في بلد تكثر فيه التجاذبات والتناقضات والصراعات والتدخلات على أنواعها.
الملاحظة الاولى تعني المستفيدين من «شيطنة» المتظاهرين وتشويه تحرّكاتهم بحجة ان من بينهم من يعمل لخدمة أجندات خارجية تهدف اما الى تصفية حسابات (يعود بعضها الى 2005)، او الى السير في «مؤامرة» مستحدثة لقلب النظام واستبداله بحكم يناسب اجندات بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية. وبما ان المطلب الجامع للمتظاهرين هو مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين، كما اكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله اول من أمس، فان الفاسدين، وهم من الأثرياء الذين يتمتعون بقدرة واسعة على تمويل كل من يأتي بأي معلومة او إشارة تساعد على التشكيك بصدقية المتظاهرين وبأحقية مطالبهم وصوابية تحركاتهم. الفاسدون بغالبيتهم أشخاص يتولون مراكز قيادية في الدولة اللبنانية، ومن بينهم رؤساء ووزراء ومدراء وقضاة وضباط وقيادات حزبية ونقابية وجمعيات غير حكومية، وهم يتمتعون بصلاحيات ونفوذ قوي يتيح لهم التعميم بأن التظاهرات تهدد الاستقرار وتهدف الى خدمة مآرب معادية للدولة وللمقاومة. فالفاسد، «كالعميل لا دين ولا طائفة له»، هو الرجل «القوي» في لبنان. ولا شك انه يوظف كل الامكانيات الإعلامية والاعلانية والسياسية، وهو مستعد لصرف أموال طائلة لتشويه كل من يسعى لكشف فساده وكل من يطالب بمحاسبته واسترداد المال المنهوب. وقد يجتمع الفاسدون من مختلف الجهات السياسية والطائفية والمذهبية في عصابة سرّية واحدة تتمتع بقوة قامعة لا مثيل لها بقذارة اساليبها. ولعل اكثر ما يتمسك الفاسد بتعميمه هو ان ما يجري في لبنان هو اما استنساخ لما جرى في سوريا، أو هي مؤامرة كونية تستهدف حزب الله، أو اننا ذاهبون الى حرب أهلية طاحنة.
الملاحظة الثانية تتعلق بطبيعة المتظاهرين في مختلف المناطق اللبنانية. من بين هؤلاء شريحة واسعة من الشباب غير المسيّس وهم يعبرون عن «القرف» من السلطة الحاكمة بكل من فيها بسبب انفصالها الواضح عن اهتماماتهم وقيمهم وتطلعاتهم. هؤلاء الشباب لا يعرفون من التاريخ والسياسة في لبنان سوى اخبار وخبريات عن نهب وصفقات وزير وسرقة مدير ورشوة رئيس وسطوة نافذ وسيطرة ابن الزعيم على هذا القطاع وذاك المرفق العام. اسأل أياً منهم عن أي من رجالات الدولة وتسمع الجواب. ولا حاجة لمتآمرين لنشر أخبار كاذبة عن الفساد المستشري في معظم أروقة الدولة اللبنانية ورجالها الأقوياء، فالوثائق التي تدل الى فسادهم منشورة في الصحف ويتناقلها الشباب بكثرة غير مسبوقة عبر وسائل التواصل الالكتروني.
هؤلاء الشباب غير حزبيين، وهم بغالبيتهم لا يثقون بالمراجع الدينية التي يعدون رجالاتها شركاء اساسيين في جرائم الفساد ونهب المال العام. هم جيل من الشباب غير المنظم وغير المجهز لاقتراح سلطة بديلة. وهم أصلاً لا يسعون جدياً لاستبدال السلطة الفاسدة الحاكمة، بل كل ما يقومون به هو رفع الصوت بوجه من يحكمهم بشكل لا يرونه شرعياً. فالشرعية تأتي من الخدمات الأساسية التي يقدمها الحاكم لشعبه. ومن هذا المنطلق قد يفهم المتظاهرون الشباب ان حزب الله وأمينه العام يشكلون مرجعاً شرعياً لإخوتهم الشباب الحزبيين حيث ان هؤلاء وعائلاتهم يحصلون على الخدمات التربوية والطبية والاجتماعية والأمنية من حزب الله. وانطلاقاً من هذا المفهوم يشعر بعض هؤلاء الشباب ان طلب السيد نصر الله من المحازبين الانسحاب من الشارع هو تخل عنهم، وهو موقف فئوي، بينما يراد لمكانة قائد المقاومة مكانة جامعة وحاضنة لجميع من هم في خط مواجهة أعداء لبنان.
لا يبدو ان الجزء الأكبر من الشباب المشاركين في التظاهرات يسعون الى تحقيق أي هدف يتعلق بأجندات خارجية او بأحقاد سياسية او طائفية أو مذهبية. ولا يبدو ان سبابهم النابع من غضب وقرف بعد سنوات من تفاقم نهب وفساد «الأقوياء» يستثني أحداً في السلطة الحاكمة. يريدون بلداً لا ينهب فيه الرجل القوي اموال الدولة ومن ثم يدعي الطهارة والصواب متلطياً خلف طائفة أو مذهب أو عقيدة أو خط سياسي. يريدون وجوهاً جديداً واعدة ومتفهمة لأوضاعهم. يريدون دولة مؤسسات وقانون وخدمات طبية واجتماعية وتربوية وأمنية. يريدون دولة لجميع أبنائها من دون أي تمييز أو تفضيل أو مراعاة فئوية.
الملاحظة الثالثة تتعلق بطرابلس حيث يسعى بعض الشباب الى إزالة جميع صور الزعماء والرؤساء والوزراء والنواب ورفع العلم اللبناني مكانها. فعلى مداخل الفيحاء حيث كانت تستقبلك صورة لأحد رموز الفساد المتلطي خلف زعامته المذهبية كتب المتظاهرون «أهلا وسهلا بكم في مدينة ثورة 17 تشرين». هنا، في عاصمة الشمال، ثاني أكبر مدينة في لبنان، يجتمع عشرات آلاف الفقراء والمظلومين والمستضعفين ليستغيثوا صارخين «كلن يعني كلن»، وعن حق لا يمكن لأحد التشكيك به لأن الجميع تخلى عن شباب عكار والضنية والمنية وطرابلس والميناء وغيرها من المناطق الشمالية حيث تسجل اعلى نسب الحرمان والبؤس. ويبدو ان عدم استجابة أحد بشكل جدي لنداء الشباب في ساحة النور وكأنهم من بلد آخر أو كأن حراكهم فئوي مذهبي محدود، سيشعل في نفوسهم مزيداً من الغضب والنقمة بوجه السلطة الحاكمة الفاسدة، وسيكون من الصعب ضبط الوضع إذا استمر الإهمال.