هذه المرّة أيضاً، هناك شهودُ سيؤكّدون لكم بأنني وضعت عن قصد كلمةً عابرة في مقالٍ سابق، عن لطف أحد كوادر «أمل» على المستوى الشخصي، مع أنني كنت أعلم أن البعض سيقفز عليها ولن يفهم معناها وسيتناسى كلّ ما يأتي بعدها، وكان في وسعي بسهولة وبساطة أن أُخفي هذا الجانب ولا أذكره. ليست المسألة فقط في عامل «الصدق»، أي أن عليك أن تنقل أموراً كما هي وليس لكي تناسب المنظور الايديولوجي الضيّق لأحدٍ ما، بل المشكلة هي تحديداً في هذا المنظور الايديولوجي الذي لا يقبل بأن مناصراً لـ«أمل» يمكن أن يكون «لطيفاً»، ولا يقدر عقله على استيعاب المفارقة.سأشرح: في الأيّام التي سبقت الاعتداء على المتظاهرين في وسط بيروت، لاحظت خطاباً يتعمّم، بين الناشطين، في الاعلام الاجتماعي، وعند أكثر أصدقائي، وهو يتعامل مع «أمل» لا كأنّها خصمٌ فحسب، بل وكأنّ كل من فيها ليسوا «ناساً» وبشراً مثلنا. ومن دون بذل أي جهدٍ للتفريق: هل انت ضدّ نبيه برّي والأثرياء الذين حوله، أم انت ضدّ الفقراء الملحقين بـ«أمل»، وضدّ الموظّف والكادر القروي وكل من يحبّ موسى الصدر؟ تدخل الى قرية فتجد أن نصفها مع «أمل»، هل هم كلّهم أعدائي؟ وهل من طريقة أفضل لخلق وحدةٍ وتماسك بين المستفيدين الكبار (وهم أقلية) وبين من هو مستعدّ للاعتداء على الناس لأجل قيادته (وهم ايضاً أقلية صغيرة)، وبين السّواد الأعظم للمؤيّدين، من أن تعيّرهم جميعاً وتصفهم بأنّهم - كلّهم - «فاسدون وزعران»؟ (وقد شارك بعض ناشطي «حزب الله» في هذا السلوك، فلا ضير لديهم من أن يتم توجيه الهجوم على «أمل» بدلاً منهم).
لا مشكلة عندي في جعل «أمل» أو غيرها كبش فداء، ومن يعرفني يعرف موقفي من هذه التنظيمات. ولكن، إن عاديت فقراء «أمل»، وأنت قد عاديت ايضاً فقراء «حزب الله»، فمن سيظلّ معك بالتحديد، وهي ستكون ثورةً بمَن ولأجل من؟ وهل تريدها في لبنان ومجتمعه، أم في بلدٍ آخر، أم على التلفزيون؟ أمّا الخطاب الأبوي عن أنّهم أناسٌ مغيّبون وبلا ارادة، و«انّي انزل من أجلك يا حقير»، فهذا هو الوجه الآخر للفوقيّة ذاتها. أوّلاً، هناك قاعدة بديهيّة وأوّليّة في العمل السياسي، وبخاصة إن كنت تدعو لـ«التغيير»، هي «حقٌّ» أساسي للمواطن يشبه حقوق الانسان، وعليك ألا تنساه، وهو حقّ المواطن بأن لا يأخذك بجديّة وأن لا يتبعك. ولا يمكنك أن تلومه إن فعل، بل أن تراجع انت نفسك. ليس من واجب الانسان التّعِب أن ينزل خلف كلّ من يزعم التغيير بل، كما يقول محمود المعتصم، فإنّ حقّه - وواجبه - هو أن يميّز وعد التغيير الزائف ويبتعد عنه، وأن ينتظر التغيير الحقيقي.
ثانياً، أبناء هذه الأحياء الفقيرة في بيروت ليسوا كما يقدّمهم الناشط البرجوازي: بلا صوت، ويسهل شراؤهم أو رشوتهم، ويمكن للمسؤول الحزبي أن يحرّكهم كما يشاء. في هذه الأحياء، حقيقةً، نسبة عالية من الشباب الذي لا يملك تأطيراً، ولا أحد يقدّم له شيئاً، وهو - وإن كان فقيراً - معتدُّ بذاته ويعتبر أنّه (كما يصف أحد الأصدقاء نفسه) «لا يملك غير كرامته»، فالأفضل ألّا تقترب منها. هم، في الحقيقة، أقلّ عرضةً للارهاب والتخويف من أبناء الطبقة الوسطى، هم كانوا وقود الاحتجاجات في أيامها الأولى، وهم من أخاف الجميع وجعل المؤسسة السياسية بأكملها تخرس. وهم، إن وقفوا معك حقّاً وشاركوك قضيتك، قادرون على حمايتك من أيّ تنظيم. ولكنّ، حين تقيم الى جوارهم مشهداً غريباً لا يشبههم (أنا نفسي أشعر بالدونية الطبقية حين أكون حول هؤلاء الناس الذين يرطنون بالانكليزية، وأنا برجوازي ودرست في الخارج، فما بالك بالفقير؟ والصّور الجميلة في الاعلام ليست لهم ولا تهمّهم، والبنات الجميلات من الجامعات الخاصّة اللواتي ركّز عليهنّ المصوّرون بشراهة لن ينظرن أصلاً الى شابٍّ من الخندق الغميق)، ثمّ تعيّرهم بفوقيّة - من غير تمييز - بأنهم زعران وفاسدون، فقد تحصل المفارقة الكبرى: بدلاً من أن ينزلوا معك لكي يحموك ويكونوا رأس حربتك كما حصل في البداية، ينزل الحيّ بأكمله للمشاركة في ضربك، ولا تتمكن من «التعايش» مع الحيّ الفقير الذي يجاورك.

عن المقاومة مرّة أخرى
كتب حسن الخلف نصّاً عن السياسة والانتفاضات في بلادنا، ذكر فيه نظريّةً عن مفهوم «الحماية»، مختصرها أنّ النّاس في بلادٍ تعرّضت لحروبٍ متواصلة وتهجيرٍ وخسائر شخصية وجماعية هائلة (كما في لبنان والعراق وسورية وفلسطين) حين تقيّم الخيارات السياسيّة أمامها، فإنّ مفهوم «الحماية» لديها يدخل في الحسبان. هم لا يريدون العودة الى زمن القصف اليومي والهروب من قراهم كلّ بضع سنين، ويعرفون معنى أن يتمّ انتهاكك وأن تكون ضعيفاً بين أقوياء. «ما هي خطّتك لكي تحميني؟»، هو سؤالٌ سيطرحه العربيّ ضمنياً لكلّ مشروعٍ سياسي يمرّ أمامه. هذا من الأسباب التي تجعل من الفصل بين الأمن والخبز وهماً خطيراً. هذا الفصل يسمّيه الباحث الأميركي ماكس آيل «اقتصادوية استعماريّة»، لأنها تحاكي نظرةً فوقيّة لأهل المستعمرات تعتبر أن «السياسة» الوحيدة بالنسبة اليهم هي أن يأكلوا، ولأنها تخفي العلاقة المباشرة بين الأمن والسيادة من جهة، والخبز وحياة الناس من جهةٍ أخرى.
ولكن رأيي هو أن هذه النظريّة ليست شاملة ولا تنطبق على الجميع. هي بديهيّة بالنسبة لمن يعيش قرب الخطر والتهديد، وقد عانى في الماضي ما عاناه، ولكنّ - في حالاتٍ كثيرة - فالناشط البرجوازي في بيروت، أو المثقف أو الصحافي أو موظف الوكالات الدولية، لا يحتاج حرفيّاً الى هذه «الحماية». هو قد يفضّل بيروت «كوزموبوليتية» تسود فيها التأثيرات الغربية على المقاومة وكلفتها. بل، بالنسبة اليه، فإن انتصار الاسلاميين قد يكون عنده قدراً أسوأ بكثير من أن نخسر الحرب أو أن تعود اسرائيل الى الجنوب. وهو يعرف، في نهاية الأمر، أنه حتى لو ضربت اسرائيل لبنان، فهي لن تضربه هو. الفئات التي تعتمد على المقاومة للحماية، وتعتبرها مسألة وجودية، هي التي لا خيارات أمامها: بيته يقع في مرمى تهديف اسرائيل، ولن يعرض عليه أحد وظيفةً في جمعيّة أو تمويلاً خارجياً أو حياةً على الطريقة الغربية في رأس بيروت. أمّا من «يدعم» المقاومة ولا مصلحة له فيها، كـ«خيارٍ» نبيل أو جمالي أو ايديولوجي، فهو من السّهل أن ينتقل الى خيارات أخرى (والخيارات الأخرى، في العالم الأوسع، هي دائماً أكثر ربحيّة واقل تكلفة). من يدعم المقاومة لأسبابٍ عاطفية عن بعد قد يعاديها لأسباب عاطفيّة، ومن يحمل موقف «دعم المقاومة» كهويّة اجتماعية في محيطه (كحال بعض النسويين اليوم) سيتخلّى عنه حين يصبح مزعجاً أو يتعارض حقّاً مع رأيٍِ أو مصلحة. كما كان «الرفيق فهد» يقول في العراق، لن يحمل القضيّة، في ساعة الحقيقة، ويدافع عنها سوى أهلها، الذين يعتمد وجودهم على وجودها (ومن يعيش في بلدٍ محتلّ وتحت نظامٍ عميل، ولا يملك حتّى أن يبني خطاباً حقيقياً في وجه هذا الواقع، فهو بالطبع لن يفهم هذه الأمور ومعناها).
هذا، على أيّ حال، ليس خبراً جديداً في لبنان. كلّنا نذكر سنوات التسعينيات، حين كان أهل «الجبهة» يعيشون في عالم، حيث لا يمكن أن يمرّ عليك يومُ، في أي مكانٍ في الجنوب، لا تسمع فيه قصفا وهدير طيران، وفئات كاملة في بيروت تعيش في عالمٍ مختلفٍ ومعزولٍ عنه (هذا التوجّه عبّر عنه رفيق الحريري مرّة بوضوح، في مقابلة في اوائل التسعينيات، بأنّه يريد عزل «الجزء المريض» عن «الجزء الصّحيح» من لبنان، لكي لا تؤثّر المقاومة والحرب ضدّ اسرائيل على «البزنس» و«اعادة الإعمار»). أذكر أنّه يوم تحرير الجنوب، عام 2000، حين كنت ترى حولك رجالاً - راشدين أشدّاء - يجهشون بكاءً وهم يشاهدون على التلفزيون مواطنيهم يدخلون قراهم للمرّة الأولى منذ ربع قرن، أو للمرّة الأولى منذ ولدوا، ذهبت الى الجامعة لأجد العديد من زملائي متجهّمين واجمين، يشتمون المقاومة ويعبّرون عن قلقهم على مصير عناصر لحد.
ولكنّ قلب المسألة هنا هو في محدوديّة هؤلاء. انت يمكنك أن «تعيد تثقيف» أفراد، أو حتّى فئة كاملة في العاصمة (المسألة هنا طبقيّة قبل أيّ شيء)، وأن تصبح لهم مصالح جديدة وأولويات جديدة ويعيشون في جوٍّ مختلف، وتضحي المقاومة عندهم عبئاً أو عدوّاً. ولكن، كم من النّاس من الممكن أن تتم «اعادة تثقيفهم» بهذه الطريقة؟ هل ستعرض على كلّ أهل الأرياف وظائف وجامعات أميركية و«شلّة»، وتجعلهم جزءاً من هذه الشبكة؟ قد تتمكّن من شراء كلّ نخب الإعلام والمال والأكاديميا ولكنّك، على المستوى الشعبي، لن تجنّد سوى القلّة.

حلولٌ كثيرة وحلٌّ حقيقيّ واحد
في السّياسة، نحن معلّقون اليوم بين مرحلتين، والقادم يحمل الكثير من الاحتمالات. بالنّسبة لي، طالما أنّ الحراك لم يتمخّض بعد عن رأي صلب يطالب بوضوحٍ بعدم دفع الدّين العام، بأكمله وبلا مساومة، فأنا لا أرى تقدّماً. قلّ أن تجد في التّاريخ قضيّةً محقّة لشعبٍ غاضب، ويكون حلّها واضحاً وبيّناً الى هذه الدرجة. تريدون استرداد السرقات؟ ألغوا الدين العام، فهنا كلّ مال السرقات. فلتفشل بعض المصارف، أو حتّى كلّها، وتؤممها الدولة، وليتحمّل كبار المودعين الثّمن. تريدون معاقبة المصارف؟ طالبوا بالغاء الدّين العام، فهذا يؤذيهم أكثر من التظاهر، وبعد ذلك نتفرّغ لمشاكل البيروقراطية اللبنانية والهدر والفساد، فهي - مجتمعة - لا توازي الكلفة السنوية لخدمة الدّين. أحلّل أكثر أحداث الأشهر الماضية على أنها أساساً وسائل للتهرّب من هذا الخيار الواضح ومنعه من التحوّل الى شعارٍ للشعب المنتفض.
حتّى الكلام عن «إعادة هيكلة الدّين»، وهو خيارٌ سيئ، أصبح ممنوعا ومحرّماً. يجب أن تحذروا هنا من «الحلول الوسط» التي يتمّ طرحها، التي تبغي صرف النّظر عن هذا الشّعار. الكلام الذي أصبح رائجاً بين الجذريين عن «قصة الشعر» أو فرض ضريبة استثنائية على الودائع الكبيرة قد تبدو يسيرة وسهلة وتنجينا من خيار التوقّف عن الدّفع، ولكن الحقيقة أنها ليست كذلك في الواقع. نظرياً، في وسع مجلس النواب أن يصدر قانوناً يقرّ هذه الأمور، أو يقرّ أي شيء، غير أن أي مصادرة أو تعديل في اتفاقات ستكون مسألة صعبة وشائكة ولا ضمانة لنجاحها. سيتمّ تحديها من قبل الرأسماليين بكلّ الوسائل، في الداخل والخارج، وهم على الأرجح سيفوزون. قوموا بمراجعة حالات تاريخية سابقة حتى تتأكدوا، اذ لن تجدوا الكثير من الحالات الناجحة. ما أقصده هو أنّ الصّراع مع الرأسمالي ليتخلّى عن عشرة أو عشرين في المئة من ودائعه لن يكون أسهل أو أصعب من أن تتوقّف ببساطة عن دفع الدّين بأكمله. أيّ شيءٍ غير ذلك لن يكون الّا تمديداً للنظام الحالي وانقاذاً له، وان تغيّرت كلّ الأسماء.
قد تتمكّن من شراء كلّ نخب الإعلام والمال والأكاديميا ولكنّك، على المستوى الشعبي، لن تجنّد سوى القلّة


ما يحصل اليوم هو أنّ المصارف مستعدّة لأن تدفع بنفسها ملياراتٍ للدولة مباشرة (من أرباحها الفاحشة، بالطبع) لكي تحمي كبار مودعيها وتضمن بأن ندفع لهم كامل الدّين وفوائده. هناك مأزقُ في لبنان وأي تقييم «ديمقراطي» للموضوع سيحكم بأن الحلّ العادل هو في أن تدفع المصارف وكبار مودعيها، حصراً، ثمن ما اقترفوا. المصارف تعلم بأن هذا الحلّ - أو حتى ترك الأمور في مسارها - قد يعني موتها، وهي تقايض حياتها بحياتنا في هذه الأثناء. السّلطة الحقيقية في لبنان ليست في الوزارة والمناصب السياسيّة، بل هي هنا تحديداً: المصارف والمودعين الكبار خلفها، الاحتكارات التي تتحكّم بالسّوق اللبناني، شبكة رجال الأعمال الذين تظلّلهم «أمل» في الجنوب، والغاء الدّين العام هو المفتاح لكلّ هذه الأمور. قريباً سنواجه المفصل الحقيقي حين تبدأ سندات الدّين بالاستحقاق، وستحتاج الدولة الى قروضٍ جديدة لدفعها، ولن يكون ذلك متاحاً (أو ستعرض علينا معدّلات فائدة فلكيّة لا يمكن احتمالها)، حين نصل الى هنا تكون لحظة القرار الفعلي، وعلينا أن نتحضّر لها.

خاتمة
أمّا عن «أمننا»، فمن الغباء بالطبع أن نتعامل مع الموقف وكأن اميركا ليست موجودة بيننا، وكأن لبنان «اكواريوم». هناك في الأصل أمورٌ كثيرة حصلت في الاسابيع الماضية لا يمكن تفسيرها عبر أيّ شكلٍ آخر (لماذا يقف، مثلاً، كلّ الفريق الأميركي في لبنان في صفٍّ واحد على تناقضاته، من جنبلاط الى جعجع الى ريفي\السنيورة الى منظمات المجتمع المدني الغربية التمويل وصولاً الى قيادة الجيش؟ ولماذا ينضمّ جنبلاط، مثلاً، بحماسةٍ الى ثورة ضدّ الفساد ويوجّه محازبيه لقطع الطرقات؟ هل يعتبر أنّ الثورة ستقدّم، حين تنتصر، مكاناً مميزاً للاقطاع؟). ولكن الخوف من هؤلاء هو أساساً على النّاس وقضاياهم وليس على المقاومة. المقاومة ليست نظاماً استبدادياً انفصل عن شعبه، ويمكن توجيه ناسه ضدّه، الأعداء سيظلون هم ذاتهم الأعداء القدماء، والنادي المعروف وإن ضمّ باستمرار أعضاءً جدداً، وهي عداوة «بنيوية» لا حلّ لها.
يخبرني صديقٌ من العراق أنّ مصير المقاومة في لبنان بالنسبة اليه ليس مجرّد قضيّة يتابعها ويشجّعها عن بعد، بل هي أصبحت مسألة تعنيه شخصياً وتمسّ حياته. ماذا سيحصل للعراق، يقول، لو هُزم «حزب الله» وخسرنا لبنان؟ ماذا سيحصل لسورية؟ والسؤال ذاته يمكن أن تقرأه بالمعكوس: إن سقط العراق في يد أميركا أو هاوية الحرب الأهلية، فكيف يصبح شكل المنطقة؟ الرّابط بين هؤلاء النّاس هو ايضاً مادّيُّ وحقيقي وقوي فلا خيارات أمامهم، ولهذا السّبب فهم - مهما حصل - لن يضيعوا ولن يُهزموا.