ثمّة ما لم تفهمه السلطة بعد. هؤلاء الذين نزلوا وينزلون إلى قلب بيروت، منذ عشرين يوماً، ليسوا مادة للتجاذب أو للاستثمار. هؤلاء صامدون في الساحات لأنهم أصحاب حقّ. ولأنهم كذلك، تجدهم كلما قيل إن انتفاضتهم خمدت، يتجددون.هؤلاء يثقون بأنهم لن يخرجوا من الشارع، وإن قرر سعد الحريري إيهام نفسه بأنه جزء من الناس المنتفضين، مغمضاً عينيه عن حقيقة أنهم ينتفضون ضده تحديداً، بوصفه رئيس السلطة التنفيذية أولاً، ووريث الحريرية السياسية ثانياً. وهؤلاء لن يخرجوا من الشارع لأن «بيّ الكل» وجد بهم أبناء ضالّين، فاتهم أن «أباهم» سبقهم إلى المطالب والشعارات. وهؤلاء لن يخرجوا من الشارع لأن «حزب الله» اعتبر لبرهة أن وجودهم في الشارع يوقظ مارد الانتهازيين ويحرك جيش المنقضّين على المقاومة. وهؤلاء لن يخرجوا من الشارع لا لأن حركة أمل تهدّد ولا لأن القوات تخادع.
أمس، كان تحدي الحشد أكبر التحديات. ففاض وسط البلد بالمنتفضين. للمرة الأولى، كانت الأعداد مهمة. وقد انشغل كثر في قياس المساحات، والمقارنة بينها وبين مشهد بعبدا. واحتفلوا بنجاحهم في إفراغ تظاهرة السلطة من مضمونها، بعدما جعلوها حافزاً لتجديد زخم الشارع. كل من يُسأل يردد الأمر نفسه: المشهد عند مفرق بعبدا كان مستفزاً. لا يُعقل أن يتظاهر نواب ووزراء حاليون وسابقون ضد الفساد، كما لو أنهم خارج السلطة. ولذلك، هتفوا: «لا إصلاح ولا تغيير ما بتروح غير عالفقير».
في البلد، يُدركون تماماً لماذا نزلوا. لكل منهم قضيته، وهذا حق. لكنهم كلهم يجمعون على أن هذه السلطة الفاسدة سرقت أحلامهم، كما أموالهم، ووجب إزالتها. هؤلاء ليسوا مرضى الوهم. يعرفون أنهم، كلبنانيين، لم يصلوا إلى النضوج الذي يخرجهم من عباءة طوائفهم. لكنهم، مع ذلك، واثقون بأن البحصة رُميت في البحيرة، وأن العزيمة ستولّد الوعي أمام المنقادين خلف هالة الزعماء. «يا شعبي ويا مسكين ضحكوا عليك باسم الدين»، يرددون خلف مكبرات الصوت.
يحسبونها جيداً، ويؤمنون بأنه كلما انفضّ شخص واحد من قوقعة طائفته، ضُرب مسمار في نعش نظام صار يأكل أبناءه. وهذا الشخص، يأملون أنه سيصير شخصين ثم ثلاثة، ثم ستكبر بقعة الزيت وتتمدد، حتى تصير بحجم وطن. وهذا كله لم تفعله الانتفاضة. «الانتفاضة نتيجة وليست سبباً، والسبب هو ما أوصلت تلك السلطة البلاد إليه».
في وسط البلد، يدركون كل ذلك ويرددونه في الندوات وحلقات النقاش والهتافات التي تولد كالفطر بين ساحتَي الشهداء ورياض الصلح، مروراً بالموقف المواجه لمبنى العازارية. في العازارية تحديداً، بدأت المجموعات التي اتخذت مقراً لها هناك، تُمأسس عملية التثقيف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وندواتها تلقى قبولاً لافتاً، ولا سيما من التلاميذ والطلاب، الذين تزداد مساحتهم في تلك الانتفاضة. من يستمع لهم، يدرك أن هؤلاء ليسوا في كرنفال. هؤلاء لديهم مطالبهم، وتأمين فرص العمل في أول القائمة. لكن فرص العمل بالنسبة إلى تلك المجموعة التي كانت تهتف في رياض الصلح «يا عمال ويا طلاب بكرا في عنّا إضراب»، لا يمكن أن تأتي من سلطة أفقرت شعبها. ولذلك، هم يدعون إلى إسقاط «سلطة رأس المال»، التي دمرت التعليم الرسمي وضربت الجامعة اللبنانية، وهجّرت الشباب وسبّبت البطالة.
من بين «الثوار»، وبالرغم من الاكتظاظ الشديد، تجد من يعتذر من متظاهر رمى عقب السيجارة، أثناء دعوته إلى رميها في سلة المهملات «لأننا نحن الذين ننظف وصورة الساحة من صورتنا». أمس، أضيف حبل المشنقة إلى المشهد. ثلاثة حبال تدلّت من منصة، يتداور على مشانقها الناشطون، في مشهد رمزي يعبّرون فيه عن ضرورة شنق الطائفية والفساد والحرب الأهلية. كثر وجدوا في المشهد فرصة لالتقاط الصور، لكنه لم ينسِ آخرين أن الإعدام جريمة أيضاً.
الفنانون صار لهم من ينتظرهم. فنانو «مترو المدينة» اتخذوا من الشارع الفاصل بين العازارية وموقف السيارات مقراً لهم. آلاتهم الموسيقية، كما حناجرهم، حملت المطالب نفسها، لكن جرعة الفرح التي بثت هناك كانت أكبر.
في رياض الصلح، ظل النبض مرتفعاً كما في كل أيام الانتفاضة. أغان ثورية تربّى عليها كثر إلى جانب أغان ولدت مع الثورة المصرية، وأخرى بدأت تأخذ هوية المكان.
انشغل كثر في قياس المساحات والمقارنة بينها وبين مشهد بعبدا


الشيوعيون واليساريون حاضرون بقوة، لكنْ للحزب الشيوعي وضع خاص هنا. قال أمينه العام إن الحزب خلف الجماهير، وهذا واقع على الأرض، لكنه ليس الدور الطبيعي الذي ينشده الشيوعيون. شيوعية قديمة تردد: هذه فرصة ذهبية للحزب الشيوعي الجاهز إيديولوجياً وتاريخياً وثقافياً وتنظيمياً ليقود الجماهير، لكنه ينكفئ إلى حدود مجموعات المجتمع المدني. يردّ عليها رفيقها مبرراً: هذه ثورة غير تقليدية، ولذلك ترى الأحزاب التقليدية صعوبة في التعامل معها.
للمناسبة، الساحة تتمكن مع الوقت من سلخ المجموعات «المشبوهة» أو المشكوك بتمويلها. في الاجتماعات التنسيقية القليلة التي تُعقد إلى جانب العازارية نبذٌ تام لحزب سبعة، الذي يعتبر المنتفضون أنه أكثر المعبّرين عن هذه الحالة الشاذة.
كان الازدحام شديداً في خيمة «مواطنون ومواطنات في دولة». شربل نحاس يخطب في الجماهير، محذراً السلطة من الاستمرار في سياسة شراء الوقت والمماطلة في الاستماع إلى صوت الناس. ذلك ثمنه مرتفع ويزيد سرعة الوصول إلى الهاوية.
في خيمة أخرى، يقف طارق متري. يسأل أحد المتنقّلين بين الخيام عن تلك المجموعات التي تتحفّظ على وجود نحاس ولا تجد في حضور متري ما يستفزها.
داخل خيمة ما يسمى «الملتقى» يعلو النقاش بشأن «ماذا بعد؟». المنبر مفتوح أمام من يريد من المشاركين. قانون الانتخاب، إصلاح القضاء، حكومة إنقاذ من خارج أحزاب السلطة، انتخابات مبكرة، بناء دولة المواطنة… المطالب كثيرة. لكل مجموعة مطالبها، لكن معظمها متشابه. منها ما يوزع كمنشورات أيضاً. تلك المنشورات تأتي من كل حدب وصوب، وبعضها يعطي لنفسه حق التكلم باسم «الانتفاضة الشعبية».
مع ذلك، فإن الأمور بدأت تتبلور أكثر، لكن ليس إلى الحد الذي ينتج هيئة قيادية أو تنسيقية، تمثل أغلب المنتفضين ومجموعاتهم وأحزابهم ونقاباتهم. «اللقاء التشاوري النقابي» يجتمع مع بعض المجموعات يوم الأربعاء. غلاء الأسعار صار بنداً رئيساً على جدول الأعمال، وهنالك أفكار كثيرة لمواجهته. ذلك واحد من الاجتماعات التنسيقية التي بدأت تتكثف، تمهيداً للاتفاق على الخطوات اللاحقة.
خلاصة يوم أمس بعيون كثر من المنتفضين: لا عودة إلى الوراء. بل على العكس، حضور الساحات سيزداد قوة، كلما استمرت السلطة بالعمل وفق منطق ما قبل 17 تشرين الأول.