لم يشهد قصر بعبدا في السنوات الاخيرة تدابير أمنية مشددة كالتي يتخذها اليوم الحرس الجمهوري، الا عند حدثين: تظاهرات 14 آذار لاسقاط الرئيس اميل لحود، والتهديدات الارهابية في مرحلة معركة نهر البارد. قطع الطرق المؤدية الى القصر الجمهوري وتطويقه بالاسلاك الشائكة حدثان غير مستحبين، حين يكون قصر بعبدا على اهبة الاستعداد للاحتفال بمرور ثلاث سنوات على عودته الى الحياة بعد الفراغ الرئاسي. ولأن ما يحصل مقلق في النظرة الى رئاسة الجمهورية، وفي التعامل مع التيار الوطني الحر كذراع سياسية للعهد، فان جملة مؤشرات تفرض نفسها في مقاربة الحدث.باغتت الايام الاولى وحجم التظاهرات ونوعية المشاركين فيها سفارات غربية. بخلاف بعض الاتهامات، دخلت هذه السفارات على خط منع انهيار الحكومة لا دعم المتظاهرين. لكن بعد ثبات هؤلاء وتوحد لغتهم حول المطالب المعيشية وارتفاع اعدادهم والمشهد الاستثنائي الذي قدموه في بيروت وصيدا وطرابلس، والتيقن عبر قنواتها الموثوقة ان لا رجوع عن التظاهر، تغير تعامل الدوائر الديبلوماسية. على مدى اليومين الماضيين، تولى سفراء ودوائر غربية مباشرة من عواصمها تبليغ مسؤولين رفيعي المستوى بضرورة الحفاظ على امن المتظاهرين وعدم استهدافهم، وبالاخص رفض التعامل معهم بقوة. كانت الرسائل واضحة في اتجاه منع استخدام القوى الامنية والجيش ضد المتظاهرين، كما حماية هؤلاء من اي تجاوزات. بعد مشهد المواجهة بين الجيش ومتظاهرين في جل الديب وذوق مصبح، استنفرت الطواقم الديبلوماسية اكثر، في محاولة لفهم ابعاد هذا الاصطدام «المحدود»، بعدما تبين لها ان القرار بفتح الطرق قرار سياسي اتخذته مرجعيات رئاسية وحكومية على السواء. وجّهت الرسائل مجددا الى المعنيين، مترافقة هذه المرة مع نصائح بضرورة اخذ ما يجري في الشارع بجدية والتعامل مع المطالب الاجتماعية من خلال حوار شامل وتقديم تنازلات. لأن من شأن اي اصطدام شامل أن يهز الاستقرار ويعرض لبنان لمخاطر امنية، وان يعيد مراقبة العين الدولية للبنان مرة جديدة، ما يسهل الانتقال الى معاينة مجلس الامن له وبقرارات دولية، وهذا حاليا لا يصب في صالح احد.
المشكلة في ما تلقاه المتواصلون مع المسؤولين اللبنانيين، ان ثمة نظرة إلى الوضع الداخلي لا تقارب حجم المشكلة الحقيقية المتمثلة بما يجري ميدانيا. بدا ان ثمة تشبثا بعدم التراجع ولو خطوات قليلة الى الوراء في محاولة انقاذية، رغم ان النصائح لفتت الى وجوب احداث صدمات ايجابية. واظهر خطاب رئيس الجمهورية الى اللبنانيين، ان المراجعة الحقيقية لم تحدث بعد، ولو انه تناول موضوع التغيير الحكومي، لان الجميع يعرف حدود التغيير الجذري الذي لن يوافق عليه الوزير جبران باسيل.
لا تزال القوى السياسية الاساسية تتصرف مع الحدث مراهنة على سأم الناس عاجلا ام آجلا . وحولت في الوقت نفسه قطع الطرق مطلبا للعهد وعنوانا رئيسيا في مواجهة الحركة الاحتجاجية. وبدا ذلك لاسباب تتعلق بالكباش في المناطق المسيحية اكثر منه عنوانا سياسيا عاما، بعدما تركز الاصرار في شكل فاقع على نزول الجيش في هذه المناطق، لا النبطية ولا طرابلس ولا عاليه، على خلفية تأجيج الخلاف المسيحي واتهام التيار للقوات اللبنانية في درجة اولى والكتائب بالسعي الى الافادة من التحرك الشعبي. قوبل نزول الكتائب والقوات باعتراض المتظاهرين، متهمين القوات بـ«سرقة» انتصار الناس والتظاهر معهم رافضين حمل شعاراتها، في حين كان يمكن للقوات التي انسحبت من الحكومة متأخرة ان تتظاهر لوحدها بأعلامها، لا سيما ان بعض القواتيين ارتكبوا اخطاء على الارض. في المقابل شكل الوجود القواتي مناسبة للتيار الوطني للترويج عن حساسيات بين الجيش وبينها احياء لصراع الثمانينات والتسعينات، والضغط في الوقت نفسه لفتح الطرق في المناطق المسيحية فقط، من دون تناول اي فريق سياسي آخر، وتصفية حسابات ايضا مع الجيش، على خلفية التجاذب الرئاسي بين باسيل وقائد الجيش، وسط كلام عن احقية مطالبة باسيل السابقة بتغيير قائد الجيش ومدير المخابرات والبدء بطرح اسماء بديلة.
حرص الجيش منذ اللحظة الاولى على تأكيد انه لن يفتح الطرق بالقوة بل سيتفاوض على فتحها، مع المتظاهرين والقوى التي تتظاهر بما فيها القوات والكتائب، ولن يعمد الى اخلاء الساحات، ولن يتحمل كلفة الدم. لكن هذا الموقف لم يثر اعجاب التيار الذي بدأ حملة اعلامية وسياسية مضادة لفتح الطرق، مضافا اليها خطاب رئيس الجمهورية، خصوصا ان خصوم باسيل بدأوا يتحدثون عن انهم تمكنوا من حصاره في بعبدا ومنعوه من الانتقال الى البترون التي تشهد ايضا تظاهرات ضده. عزز النفور العوني مع الجيش ما حصل مع تظاهرة الدراجات النارية، ثم الاصطدام الاول مع المتظاهرين في «بيروت الشرقية» الذي اعتبر جس نبض، تبين عقمه، وتأكد لمن تواصل مع الجيش انه لن يتكرر، ففتح الطرق سيتم بطريقة سلمية تفاوضية، مع مراعاة تأمين طرق بديلة لتلك المقطوعة، لضمان مرور الحاجات الضرورية.
شكل العنوان الميداني غطاء سياسيا لصراع داخلي اخمدته مبدئيا ورقة التفاهم والانتخابات الرئاسية، ليعود متأججا، عند أول فرصة، وسط مخاوف متداولة عن سيناريوهات بشعة. زكى ذلك موقف الكنيسة المؤيد للتظاهرات، والمغطي في الوقت نفسه لشرعية رئيس الجمهورية، كموقف تقليدي، سبق للكنيسة ان قامت به مع الرئيس اميل لحود. لكن مستقبله بات مفتوحا على احتمالات تعيد التذكير بالتسعينات، مع نقطة اضافية ان باسيل اليوم في بعبدا الى جانب عون. وهو يحشد مناصريه، رغم ان حدود تظاهرهم لا تزال محصورة في بقعة جغرافية مضبوطة امنيا من بعبدا الى الحدت. ورغم الخلافات الداخلية في عائلة رئيس الجمهورية حول سبل مواجهة الازمة، لا تزال الكلمة لباسيل. اما عن شموله بالتعديل الحكومي، فهو ليس في مرتبة اي وزير آخر مطروح للتبادل، حتى لو كان وزير المال علي حسن خليل، لان الاخير نائب في كتلة الرئيس نبيه بري، كذلك ليس في مستوى الوزير محمد شقير. إذ أنه رئيس اكبر كتلة نيابية مسيحية، واي تعديل يقف عنده. وحصة القوات المستقيلة يجب ان تعود اليه والمواجهة معها حتمية. اما الجيش فله كلام آخر وتوقيت آخر. وخصوم باسيل يخشون بذلك حلا يعطيه سلطة مضاعفة تمكّنه من القفز مجددا فوق اي اعتبارات كانت حتى الآن مضبوطة، وكل ذلك على طريق الرئاسيات التي باتت في الايام الاخيرة متقدمة على ما عداها.