انتهى حرج بيروت، اليوم، على شاكلة مثلّث. في الداخل، بضع مئات من أشجار الصنوبر وأنواع أخرى. هي كل ما بقي من الآلاف التي كانت موجودة هنا. أما على أطراف المثلث، فتبدو سياسة القضم - التي كانت سبباً في انحسار المساحة الخضراء - «شغالة». اليوم، تنبت على «حفافي» المثلث الأخضر مشاريع محمية بقرارات رسمية (ليس آخرها بناء المستشفى العسكري الميداني المصري وتجهيزه) رغم القانون الذي يحظّر البناء على العقار المصنّف ضمن المنطقة التاسعة (يمنع البناء عليها)، ورغم وجود هذه المساحة الخضراء على «لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية». اليوم، بقي المثلث. هذا ما تظهره خريطة «غوغل» التي استعان بها منسق جمعية «نحن»، محمد أيوب، ضمن فعاليات إطلاق مسابقة «حرج بيروت ـ نحو رؤية بديلة». وهي خريطة لا تظهر، بطبيعة الحال، ما كان عليه الحرج قبل أن يُحشر بتلك المساحة الضيقة. فعلياً، حرج بيروت «ليس المثلث»، يقول أيوب. يمكن العودة هنا إلى «الدوائر العقارية» لإعادة رسم حدود الحرج الذي كانت تبلغ مساحته مليوناً و250 ألف متر مربع. في الصحيفة العقارية مثلاً، يمكن أن نعرف أن الحرج ليس هو فقط العقار 1925، الذي يقع عليه المثلث، بل خمس عقارات متلاصقة (2639 و1924 و1906و5985، إضافة إلى الـ1925)، بقي منها الجزء الضئيل من العقار الأخير.
إذاً، حرج بيروت ليس تلك الزاوية المسيّجة اليوم. هو أكثر من ذلك. وهو حيث تشكّلت بعض حيوات المدينة ونسيجها المتنوّع. من هنا، يفترض إعادة الإعتبار لتلك المساحة، الخضراء منها والمأهولة والمحتلّة في آنٍ معاً. ومن هنا، ولدت فكرة مسابقة «رؤية بديلة لحرج بيروت» في محاولة لإعادة وصل ما انقطع، إن كان ما بين الحرج والمدينة أو ما بين أقسام الحرج نفسه.
هي محاولة لخلق «تصورات بديلة للحرج والمنطقة المحيطة به» تعيد وصل الناس به، وصياغة «الميثولوجيا الجديدة التي مفادها أن هذه المساحات ليست مجرد أشجار، وإنما مكان للتلاقي والتفاعل الاجتماعي وخلق فضاءات ثقافية (...)»، على ما يقول المعمار حبيب صادق. هذا ما يفترض أن تكون وظيفة المساحة المتبقية، «الرئة»، بحسب توصيف رئيس مجلس بلدية بيروت جمال عيتاني. لكن، الواقع يعاكس هذا المنطق. فالتعديات وسياسة القضم المستمرة منذ تسعينيات القرن الماضي، بحماية رسمية، تجعل الهدف صعباً. صحيح أن المسابقة «عزّ الطلب» اليوم، إلا أنها تترافق مع «أمر واقع» غير قابل للمعالجة. من هنا السؤال: ماذا يمكن أن تكون تلك التصورات البديلة في ظل ما هو عليه الواقع اليوم؟ كيف يمكن خلق تلك التصورات، خصوصاً في العقارات التي انسحبت من الحرج وصارت مساحات يقوم فيها البناء العشوائي و«مرافق للدولة» على طريقة الإحتلال؟
أعلن رئيس بلدية بيروت أن البلدية في طور الإنتهاء من إعداد دفتر شروط لتطوير الحرج


لا أحد يعرف ما الذي ستنتجه هذه المسابقة. لكن ثمة واقعاً «يجب أن يؤخذ في الإعتبار»، على حد قول عيتاني. وهو واقع احتلال. وهذا ما علينا أن نؤمن به في صياغة التصورات البديلة!
بعيداً عن المسابقة «المهمة في بعدها، كونها تنظر إلى حرج بيروت نظرة شمولية وأوسع من المثلث»، بحسب نقيب المهندسين جاد تابت، تجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي تطرح فيها مخططات لإعادة صياغة رؤية بديلة للحرج، منها مثلاً مخططات ومسابقات لم تنتج تصورات. أو أنتجت نصف تصورات. يمكن العودة هنا إلى المخطط الذي صيغ مع «إيل دو فرانس» مطلع تسعينيات القرن الماضي، في إطار إعادة تصميم حرج بيروت بعد الإجتياح الإسرائيلي، والذي كان شبيهاً بـ«البارك الفرنسي». يومها، تحقق المخطط، ولكن «طبّق نصفه»، على ما يقول تابت. أما لماذا؟ فربما «لأنه في بلادنا ما كتير بتمشي هيك مخططات».
على شاكلة هذا التصميم، كان ثمة تصميم آخر وضعته بلدية بيروت ولكنه لم يطبّق بالكمال. أيضاً نصف تطبيق، إذ فات استكمال هذا المخطط الجزء الأهم: تشجير أطراف المثلث.
في معرض الإعلان عن المسابقة، استغل عيتاني المناسبة للإعلان عن دراسة يقوم بها المجلس مع «إيل دو فرانس» أيضاً لتطوير المثلث وتحسين أدائه، مشيراً إلى أنه «في طور الإنتهاء من إعداد دفتر الشروط، على أن تطلق المناقصة قبل آخر العام».
يبقى ذلك وعداً، بانتظار تحقيقه. ما عدا ذلك، لا شيء يمكن أن يضيف إلى ما هي عليه المساحات الخضراء في بيروت اليوم، والتي تبقى «أقل من النسب الموجودة في مدنٍ أخرى من العالم»، بحسب تابت. المطلوب هنا، هو إعادة صياغة الواقع ومعالجة «هالعقار يللي بقي من الحرج القديم»، يختم تابت.
من المفيد التذكير أن التسجيل في المسابقة يستمر حتى التاسع من تشرين الثاني المقبل وهو مفتوح «للراغبين من طلاب ومعماريين».