يحلّ لبنان بين الدول العشرين الأولى في العالم الأكثر استحواذاً على الذهب، فهو يملك نحو 286.6 طناً من المعدن الأصفر، أو 10.116.572 أونصة بقيمة 13مليار دولار (وفقاً لسعر أونصة الذهب في السوق)، وهو ما يوازي: 38.8% من أصل الدين الحكومي بالعملات الأجنبية القائم في نهاية عام 2018 والبالغ نحو 33.5 مليار دولار (يشمل دين الحكومة من دون دين مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، كما لا يشمل قيمة الفائدة المترتبة على هذه الديون)؛ ونحو 36% من موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية في نهاية حزيران 2019، (تبلغ نحو 36.4 مليار دولار؛ نحو 29.8 مليار دولار عملات أجنبية، و6.6 مليارات سندات دين بالعملة الأجنبية).

كيف تملّك لبنان الذهب؟
امتلك لبنان الذهب للمرّة الأولى عام 1948 بمقدار 1.5 طن وفق بيانات مجلس الذهب العالمي، بعد انضمامه إلى صندوق النقد الدولي عام 1947 والاعتراف بالليرة اللبنانية كعملة مستقلّة، بحيث تمّ فكّ ارتباطها بالفرنك الفرنسي، وحدّدت قيمتها بما يوازي 0.455 ملغ من الذهب، وسعر صرفها تجاه الدولار بـ2.20 ليرة.
نتيجة ذلك، بدأت الحكومات المتعاقبة بشراء الذهب لزيادة احتياطات المصرف المركزي. وكان لصدور أول قانون نقد لبناني عام 1949 دور أساسي في زيادة عمليّات الاستحواذ على الذهب، خصوصاً بعدما حدّد شروط إصدار العملة، على أن يكون 50% من قيمة النقد المتداول مغطّى بالذهب والعملات الصعبة و50% منه بأوراق حكوميّة مختلفة، ونصّ على رفع نسبة التغطية الذهبيّة من 10% إلى 30% بين عامي 1949 و1952، فنشطت عمليّات شراء الذهب، وتجاوز معدّل التغطية الذهبية للنقد المتداول المعدّل المُحدّد قانوناً وبلغ نحو 90% عام 1954.
ترافق ذلك مع تحرير نظام القطع المُعتمد للعملات الأجنبيّة (تداول العملات الأجنبية) من أي رقابة عام 1952.

على عكس السائد، ليس للذهب أي تأثير على استقرار الليرة أو ثبات سعرها (هيثم الموسوي)

فأصبحت كل المعاملات بالعملات الأجنبية تجري بأسعار السوق الحرة، وبات نظام الصرف معوّماً، أي خاضعاً لعمليات العرض والطلب على العملة في السوق.
لم يتخلَّ لبنان عن سعر الصرف الرسمي المربوط بالذهب الذي تم توافق عليه مع صندوق النقد الدولي، إلّا أن استخداماته اقتصرت على معاملات الدولة فقط. كما لم يتوقّف عن شراء الذهب إلّا في عام 1971 حين وصل مخزون الذهب إلى 286.5 طناً، أي بعد القرار المنفرد الذي اتخذته الولايات المتحدة (يُعرف بـ«صدمة نيكسون») وقضى بفكّ ارتباط كلّ العملات العالمية بالذهب وفرض الدولار بديلاً للذهب كاحتياطي يغطّي قيمة العملات الأخرى. حينها صدر قرار عن المصرف المركزي قضى باعتماد سعر صرف متحرّك لليرة يجري تحديده نهاية كل شهر وفقاً للسوق، ويُستخدم لاحتساب مداخيل الدولة وإنفاقها بالعملات الأجنبية كافة. وهو قرار ساري المفعول حتى اليوم، ويحدّد سعر الليرة مقابل كلّ العملات الأجنبية باستثناء الدولار الذي ثبّت سعر صرف الليرة تجاهه بـ1507.5 منذ عام 1999.

القانون 42 لحماية الذهب
على رغم أن العملات (بما فيها الليرة اللبنانية) لم تعد مربوطة بالذهب منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، إلّا أن الذهب لا يزال يستحوذ على حصّة وازنة في محافظ المصارف المركزية، ويعدّ جزءاً من ثروات البلدان الوطنية، نظراً إلى قيمته العالية والأكثر ثباتاً من العملات الورقية المعرّضة لمخاطر تقلّبات أسعار الصرف، ما يجعله ملاذاً آمناً للأفراد والدول الذين يمتلكونه، ولا سيّما خلال الأزمات.
هذه الاعتبارات المحيطة بالذهب، دفعت مجلس النواب اللبناني إلى إصدار القانون رقم 42 في عام 1986، والذي ينصّ على: «منع التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه، بصورة استثنائية، مهما كانت طبيعة هذا التصرّف وماهيته، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة»، بهدف حماية الذهب ومنع وضع اليد عليه.
فمنذ بداية عهد الرئيس أمين الجميّل، نما العجز في المالية العامة وميزان المدفوعات، وبدأت موجات انخفاض سعر صرف الليرة، وتقلّصت الأجور، وتراجعت القدرة الشرائية، وهربت الكثير من الودائع المصرفية. فأخذ حاكم مصرف لبنان إدمون نعيم ينفق من احتياطي العملات الأجنبية الذي تكوّن قبل الحرب لوقف انهيار الليرة ومواجهة المضاربات عليها التي أطلقتها مصارف لبنانية وكبار المودعين فيها، ودفع رواتب موظّفي الدولة، فضلاً عن تسديد قيمة صفقة طائرات البوما التي أبرمها الجميّل نقداً. ففي تلك الفترة، كانت أرباح مصرف لبنان مصدر الدخل الوحيد للدولة بعد أن وضعت الميليشيات يدها على مرافق الدولة الأخرى.
القانون 42 الصادر عام 1986، ينصّ على «منع التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه»


كانت النتيجة استنزاف نحو 560 مليون دولار من احتياطي العملات الأجنبية. فطرح إدمون نعيم مسألة بيع الذهب كحلّ مُتاح، بعد أن ضعف مصرف لبنان وقلّت إمكانات المواجهة لديه نتيجة النزف المستمرّ في احتياطي عملاته الأجنبية. إلّا أن هذه الحجج لم تقنع العديد من السياسيين والنواب، وتردّد أن مجموعة من رجال الأعمال والسياسة المتورّطين بفضائح فساد تقف وراء هذا الطرح لوضع يدها على الذهب، وأبرزهم روجيه تمرز الذي كان الذراع المالية للرئيس الجميل، وشغل منصب رئيس شركة إنترا ورئيس مجلس إدارة بنك المشرق الذي كان يمرّ بأزمة مالية. لذا تولّد خوف من تسييل الذهب وبيعه وهدر عائداته على نفقات جارية وخدمة مصالح خاصة. فتمّ تأليف جبهة برلمانية على رأسها حسين الحسيني (كان رئيس مجلس النواب في حينها)، وتمّ إصدار القانون 42 الذي بقي سارياً، ولم يصدر أي قانون آخر يلغيه.

هل الذهب محمي فعلاً؟
إذاً، على عكس المعتقدات القائمة، لا يمتلك الذهب أي تأثير على استقرار الليرة أو ثبات سعرها نظراً لانفكاك ارتباط العملات بالذهب منذ عام 1971. إلّا أن الذهب لا يزال يشكّل قيمة بذاته، وهو من أغلى المعادن المتداولة في السوق، ويُنظَر إليه كثروة يمكن استخدامها في مواجهة الأزمات الطارئة أو في حالات التوقّف عن سداد الدين.
صحيح أن القانون 86 تصدّى لمحاولات وضع اليد على الذهب من قبل ميليشيات الحرب وسلطة الأمر الواقع بعد الحرب، ونجح حتى الآن في حماية الموجودات الذهبية (أقلّه بالظاهر)، إلّا أن مفاعيل هذه الحماية محلّية فقط!
في الواقع، القسم الأكبر من الذهب اللبناني محفوظ في قلعة «فورت نوكس» في الولايات المتّحدة، بعد أن بدأت عمليات نقل الذهب إلى الخزائن الأميركية منذ أواخر الثمانينيات، وهو ما يجعل احتياطي الذهب اللبناني خاضعاً للسيادة الأميركية.
ويضاف إلى ذلك، تخلّي الدولة اللبنانية عن سيادتها على موجوداتها الخارجية في عام 1996، عندما أقرّ مجلس النواب اتفاقية عقود إصدار سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، والتي تنصّ في أحد بنودها على قبول الدولة اللبنانية الخضوع لقوانين محاكم نيويورك المدنية لحلّ أي نزاع بينها وبين دائنيها في حال تخلّفها عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية. وهو ما يعني أن الذهب اللبناني خاضع للولاية القضائية الأميركية.

للدولة اللبنانية تجارب سابقة مع الحجز على موجوداتها، كحجز طائرة للميدل إيست بسبب دعوى من شركة «ليبانسيل»


بمعنى أوضح، فإن انتقال الدولة إلى الاستدانة بالعملات الأجنبية عام 1997، وقبولها بشروط التقاضي أمام محاكم نيويورك في حال تخلّفها عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية (أو ما يشار إليه بإفلاس الدولة)، يضع احتياطي الذهب الموجود خارج حدودها وغير الخاضع لحمايتها وسيادتها أمام مخاطر تنفيذ الحجز عليه والتصرّف به من قبل دائني الدولة.
وللدولة اللبنانية تجارب سابقة مع الحجز على موجوداتها الخارجية، فبعد فسخ عقدي الـBOT مع شركتي «ليبانسيل» و«سيليس» في عام 2001، لجأت الشركة الأولى إلى المحاكم الدولية التي أصدرت حكماً يقضي بالحجز على طائرة في تركيا تابعة لشركة MEA المملوكة من مصرف لبنان. وهو ما قد ينطبق على الذهب أيضاً، لا سيّما أن القانون 42 هو قانون لبناني يخضع له المقيمون في لبنان والمتعاملون بالليرة، ولا يلزم أي دولة أو طرفاً أجنبياً بالحماية التي يفرضها على الذهب، وهو ما يجعله غير محمي في الواقع، ويرفع المخاطر عليه مع ارتفاع مخاطر التخلّف عن السداد.
أمام هذا الواقع تصبح الخيارات محدودة. فإمّا استرجاع الذهب من الولايات المتّحدة وإيداعه في لبنان، وهذه ليست مهمّة سهلة. وإمّا الإطاحة بسلطة الأمر الواقع ونموذجها الاقتصادي - السياسي الذي رسّته بعد الحرب، وأدّى إلى هدر مقدرات كثيرة وتهجير الشباب والتفريط بالأمن الاجتماعي والاقتصادي، ولا تزال تهدّد اليوم بتهجير المزيد وتفقير وتجويع من يبقى وهدر ما تبقّى من مقدرات.

«مواطنون مواطنات في دولة»



محاولات فاشلة لاسترداد الذهب من الولايات المتحدة
حاولت الكثير من البلدان الأوروبية استعادة احتياطي ذهبها الموجود في الولايات المتّحدة، إلّا أن كلّ هذه المحاولات باءت بالفشل. يشار إلى أن هذه البلدان وضعت ذهبها في الخزائن الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية في مقابل الحصول على المساعدات التي نصّت عليها خطّة مارشال لإعادة بناء اقتصاداتها المدمّرة.
فشل محاولات استعادة الذهب، دفع محلّلين وخبراء دوليين إلى التساؤل عمّا إذا كان الذهب موجوداً فعلاً في خزائن الولايات المتّحدة أو تمّ التصرّف به عبر بيعه أو رهنه، خصوصاً أن التحقّق من وجوده صعب، لأن الولايات المتّحدة لا تسمح بدخول أحد إلى خزائنها.
- عام 2018 اتخذت تركيا قراراً يقضي بسحب احتياطي ذهبها الموجود في الولايات المتحدة وإعادته إلى أراضيها، بهدف التخلّص من ضغوط سعر الصرف واستخدام الذهب مقابل الدولار. لكن وفقاً للمعلومات المنشورة في الصحف التركية، لم تتمكّن من استعادة سوى 29 طناً منها من أصل 320 طنّاً يملكها المصرف المركزي التركي.
● عام 2016، قرّرت ألمانيا استعادة ذهبها من الولايات المتحدّة. وطالبت بنحو 670 طناً، إلّا أنها لم تتلقّ سوى 37 طناً بعد مرور أكثر من سنة. برّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي هذا التأخير بوجود صعوبات تقنية لن تسمح بإعادة الذهب الألماني قبل عام 2020، لتتخلّى برلين لاحقاً عن مطالباتها بحجّة أن نقل الذهب مكلف جدّاً.
● عام 2015، قرّرت هولندا إعادة جزء من ذهبها الموجود في خزائن الولايات المتحدة والبالغ نحو 600 طنّ، لكنها فشلت في محاولاتها.
● منذ منتصف عام 2018، تعجز فنزويلا عن استرداد 14 طناً من ذهبها الموجود في خزائن الولايات المتّحدة، التي تتحجّج بالعقوبات لتمنع فنزويلا من التصرّف بأصولها الخارجية.