لم يعد القاضي مروان عبّود رئيساً للهيئة العليا للتأديب. يمكن الآن لـ«التفتيش المركزي» أن يرتاح مِن «نقّ» ذاك القاضي، المزعج اللجوج، الذي وصل به الأمر إلى الطلب علناً، وعبر وسائل الإعلام، أن يُرسل «التفتيش» إليه ملفّات الفاسدين كي «يؤدّبهم». ظنّ بذلك أن سيُحرج منظومة الفساد، وأنّه سيحرّك المياه الراكدة، لكنّه فوجئ بسياسة «التمسحة». لم يكن يطيق الجلوس في مكتبه، تحت المُكيّف يرتشف القهوة بلا عمل، فكان يصرخ طالباً أن يعمل.ليس على بائعي الفلافل اليوم أن يقلقوا مِن مزاحمة القاضي عبّود لهم، بعدما تمنى سابقاً أن يترك القضاء ليعمل معهم، لو كان بالإمكان، وما ذلك إلا نتيجة «يأسي مِن إصلاح منظومة العدالة في لبنان». قال هذا علناً في السابق. لديه عائلة ومسؤوليات، بيع الفلافل لن يكفيه ذلك، لذا طلب طوعاً نقله مِن منصب هو فيه رئيس هيئة عليا إلى منصب آخر سيكون فيه رئيس غرفة. سيعود طوعاً إلى ديوان المحاسبة، الذي تركه قبل سبع سنوات، إذ سيمكنه هنا أن يعمل ولو قليلاً. كم هو مستفِز. لا يُرضيه أن يحصل على راتبه بلا عمل، فيسعى بنفسه لموقع جديد، حتى ولو كان «برستيجيّاً» أدنى مِن الموقع السابق. كيف لم ينقرض بعد هذا الصنف الناس؟
قرار تعيين قاضية جديدة (ريتا غنطوس) في رئاسة الهيئة العليا للتأديب، الصادر أمس عن مجلس الوزراء، كان هو الخبر الوحيد غير المتوقّع في سلسلة التعيينات القضائيّة التي أُقرّت. كلّ الأسماء الأخرى كانت متداولة، سواء في رئاسة مجلس القضاء الأعلى أو رئاسة مجلس شورى الدولة، وباقي المواقع، كلّها خلّفت أشخاصا «خُلعوا» مِن مناصبهم وآخرين سعوا إلى التبؤء... باستثناء عبّود. وحده مَن طلب إعفاءه ونقله إلى موقع آخر. لا يبدو أنّ هناك مَن قرّر إقناع القاضي بالعدول عن قراره، ولا يظهر أنّ هناك مَن تمسّك به مِن «الإصلاحيين» وإخوانهم، فوافقوا على ما طلبه مباشرة. ربّما أحدهم قال في سرّه: «الحمد لله إجت منه». هكذا سيرتاحون مِن إحراجه لهم. سيتنفّس الصعداء اليوم أولئك الذي كان يزعجهم أن يقول قاضٍ، وهم يعلمون أنّه قريب منهم، إنّ «العدالة مش ماشي حالها». ممنوع أن يُقال عن شيء إنّه سيء، ولو أنّ الدنيا كلها تعلم سوءه، طالما أنّنا نعيش في «العهد». كان عبّود قريباً مِن «العهد». لم يسعفه ذلك كثيراً. لم يستطع الرجل أن «يُطبّل» لما لا يمكن «التطبيل» له. بل لم يستطع أن يسكت: «في مكافحة الفساد يسمحون لك أن تقصّ الشعر، لا أن تقطع الرأس... والشعر يعود لينبت مِن جديد. تلتين الدولة معطوب، تلت بيقبض رشاوى وتلت ما بيشتغل».
هل يُطلب منّا أن نُصدّق، أنّ كلّ القوى السياسيّة، وكلّهم يتحدّثون عن مكافحة الفساد، لم تستطع مجتمعة ومنفردة أن تضغط على «التفتيش المركزي» (المعيّن مِن قبلهم أصلاً) ليحيل على «التأديب» ملفّات الفساد للمحاكمة؟ أن يترك قاضٍ منصبه لعدم قدرته على العمل، بهذه الطريقة وفي هذه الظروف، هو وصمة عار مِن العيار الثقيل بحق كل مَن يشعر أنّها بحقّه. أمّا مَن لا يشعر بذلك، فهو غير معني بهذا الخطاب أصلاً، ولا ينبغي أن يقال له سوى: صحتين على قلبك البلد.