في المقالات العلمية، غالباً ما تشبّه رائحته برائحة «البيض الفاسد». لكن الناس، هنا، أوجدوا للرائحة غير المحبّبة تسميات أخرى، أكثرها تداولاً «رائحة المجارير» التي تعبق في أرجاء المدينة، من دون أن يتنبّه ساكنوها إلى أهمية التدقيق في مصدرها وفي مخاطرها الصحية على المدى الطويل. نتحدث هنا عن غاز «كبريتيد الهيدروجين» (H2S) غير المرئي والسام، والذي ينتج عادة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي ومن تحلل المواد العضوية في مواقع التسبيخ والمطامر. وهو الغاز نفسه الذي استنتج وزير البيئة فادي جريصاتي، قبل أسابيع بعد استشارة «خبير روائح دولي»، بأنه «غير مؤذ»، خلافاً لتقارير منظمة الصحة العالمية التي تشير إلى أن «التعرض لمدة طويلة لغاز كبريتيد الهيدروجين يسبب انخفاضاً في ضغط الدم وغثياناً وفقداناً للشهية والوزن واختلالاً في التوازن والتهاباً في القرنية وسعالاً مزمناً وانسداداً في جهاز التنفس». والحال أن اللبنانيين تلقفوا «نكتة الخبير الدولي» بكثير من السخرية. لكنهم مع «تبخر الرائحة» الكريهة تدريجياً، تابعوا حياتهم كأن شيئاً لم يكن، من دون أن يعوا بأن اختفاء الرائحة يعني، عملياً، أن تركّز الغازات السامّة بات أعلى، وأن الهواء أصبح أكثر سُمّية. «مركز حماية الطبيعة» في الجامعة الأميركية في بيروت نشر، أمس، خريطة لمواقع تركز الرائحة، تم رصدها عبر أجهزة استشعار مثبتة في مناطق مختلفة. وأظهرت الخريطة تسع بقع جغرافية في بيروت وضواحيها الجنوبية والشمالية تم قياس تركّز الغاز فيها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وسجّلت النسب الأعلى في ثلاث بقع تنتمي جغرافياً إلى محيط برج حمود (البقعة 2) والزلقا (البقعتان 4 و5) حيث يتخطى المعدل 0.05 ppm. أما البقع الأخرى التي لا يتخطى فيها المعدل 0.02 ppm فهي: البقعة 1 في محيط جل الديب، البقعة 3 في برج حمود (نقطة غير بعيدة نسبياً عن البقعة 2)، البقعة 6 في محيط البوشرية، البقعتان 7 و8 في الكرنتينا، والبقعة 9 في محيط الضاحية الجنوبية لبيروت.
سُجّلت النسب الأعلى من تركز غاز «كبريتيد الهيدروجين» في الهواء في محيط برج حمود والزلقا


وبالتزامن، حصلت «الأخبار» على نتائج دراسة أجراها المركز بين تشرين الأول 2018 وآذار 2019 لقياس نسب تعرض اللبنانيين لـ«كبريتيد الهيدروجين» (أو سلفيد الهيدروجين») في محيط الجامعة وفي منطقة برج حمود. الخبير البيئي المتخصص في النفايات والمياه في المركز ميشيل سيتّون الذي شارك في إعداد الدراسة، أوضح لـ«الأخبار» أن «معدل غاز H2S في برج حمود بلغ مستوى 53.04 ميكروغرام/م3 (ug/m3)، وهو أعلى بستة أضعاف من المعدلات التي سجّلت في محيط الجامعة 13.2 ميكروغرام/م3». علماً أن الأرقام في المنطقتين تتجاوز الحد الآمن (2 ميكروغرام/م3) الذي حددته وكالة حماية البيئة الأميركية «EPA» (25 مرة أقل من المستويات الملحوظة ​في برج حمود في تشرين الأول 2018). صحيح أن التركيزات التي سُجّلت في بيروت لا تزال منخفضة (أعلى تركيز سُجّل هو 0.44 جزء في المليون أي 660 ميكروغراماً/ م3)، بالمقارنة مع النسب المرتفعة المهدِّدة للحياة والتي تتجاوز «300 جزء في المليون، أو 45000 ميكروغرام/م3»، أو «31 جزءاً في المليون من التعرض لمدة 8 ساعات» وفق تصنيفات «EPA». إلا أن الخطورة، بحسب سيتون، تكمن في «الآثار المحتملة من التعرض الطويل المدى لتركيزات منخفضة».

اختفاء الرائحة يعني، عملياً، أن تركّز الغازات السامّة بات أعلى، وأن الهواء أصبح أكثر سُمّية

إذ أن أزمة النفايات في لبنان مزمنة، وتعرّض اللبنانيين لشتى أنواع الغازات الملوثة للهواء غير محصور بساعات محددة، ما يزيد احتمالات استنشاقهم كميات كبيرة من «كبريتيد الهيدروجين». ويلفت إلى دراسة أجريت عام 2018 في الصين أظهرت بأن «من يسكنون في محيط المطامر، لا سيما الأطفال منهم، عرضة للإصابة بنقص المناعة وخلل في وظائف الرئتين»، وأن لـ«كبريتيد الهيدروجين» ارتباطاً وثيقاً بضعف وظائف الرئتين. وبحسب النتائج، سجلت أعلى نسبة تركيز لهذا الغاز في الصين 34.90 ميكروغرام/م3، أي 10 مرّات أقل من النسب التي قيست في برج حمود. يعني ذلك، بحسب سيتون، أن وضع بيروت «مأساة حقيقية»، وعلى اللبنانيين والجهات المعنية «أن يدركوا الأضرار التي لحقت بالبيئة والمخاطر الصحية التي يتعرضون لها» جراء استنشاقهم هذا الغاز».
 
«أثقل من الهواء»
أستاذ العلوم البيئية في الجامعة اللبنانية، أنطوان السمراني، شدّد على أهمية دراسة «مركز حماية الطبيعة» في إطار الكشف للبنانيين عن خطورة غاز محيط بهم ولا يعرفون عنه شيئاً. «لأنه أثقل من الهواء، يهبط هذا الغاز الشديد الخطورة إلى المناطق المنخفضة، حيث تقل نسب الأوكسيجين، ويشكل سحابة غير مرئية غالباً ما تسير في اتجاه الرياح». وأوضح أن هذا الغاز ينتج من نشاط بكتيريا تعرف بـ«الكبريتيدة» تنمو في أماكن انعدام الأوكسيجين، كالمياه المترسبة من تحلل النفايات العضوية ومحطات معالجة مياه المجاري. وتحوّل هذه البكتيريا المواد الكبريتية إلى غاز كبريتيد الهيدروجين الذي ترتفع تركزاته في الهواء بارتفاع نسبة البكتيريا في المياه العادمة. صحيح أن تصاعد الغاز «مشكلة غير مستجدة تعاني منها كل بلدان العالم»، لكن النسب التي تم قياسها أخيراً في بيروت، بحسب السمراني، «مقلقة إذا ما فكرنا في الأماكن الأخرى الكثيرة حيث اختلاط مياه المصرف الصحي بالنفايات».



المخاطر في مركّبات الـ«ألديهيد»
ما يبدو كارثياً هو أن غاز «كبريتيد الهيدروجين»، في حال تفاعله الكيميائي السريع مع المعادن في مياه أسيدية، ينتج منه نشوء مركبات الألديهيد (Aldehyde) الضارة وذات الرائحة النفاذة. كما ان تفاعله مع المعادن الثقيلة، التي غالباً ما تحتويها المياه العادمة (مثل الكروم، الألمنيوم، النحاس الأحمر والزرنيخ...)، يزيد من سُميةّ الانبعاثات. وفي الأماكن التي ينخفض فيها معدل الأوكسيجين، ترتفع في المقابل نسبة الغازات الخطيرة كالـ«كبريتيد الهيدروجين» والميثان (CH4). والأخير، رغم عدم تصنيفه غازاً ساماً، من أشد الغازات خطورة على الإنسان في حال التعرض له بكميات كبيرة.