يتوقع أن تصدر وكالتا «فيتش» و«ستاندر أند بورز»، قبل نهاية الأسبوع الجاري، تصنيفهما للدين السيادي في لبنان، وسط ترجيحات متداولة بين عدد من الوزراء والمصرفيين، عن أن وكالة واحدة على الأقل ستعمد إلى خفض التصنيف. كذلك، تنتهي في نهاية آب المهلة الدستورية الممنوحة لوزير المال لإحالة مشروع موازنة 2020 إلى مجلس الوزراء تمهيداً لإقرارها وإحالتها إلى مجلس النواب في بدء عقد تشرين الأول. الحدثان يتقاطعان في الاجتماع المالي الذي عقد أخيراً في بعبدا. فمسألة ارتفاع احتمالات خفض تصنيف لبنان والأثر السلبي الناتج عن هذا الأمر، شكّلا مدخلاً لطرح «سلّة إصلاحات» سيعمل على تضمينها في مشروع موازنة 2020. عدم وضوح هذه السلّة، وتسرّب معطيات عن أنها استعادة لأفكار وإجراءات كانت مطروحة أثناء النقاش في موازنة 2019 يثيران القلق من استغلال خفض التصنيف لفرض المزيد من الإجراءات التقشفية والضريبية «القاتلة».
الوضع ليس TOP
عند خروجه من اجتماع بعبدا المالي، صرّح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأن «الوضع TOP». اكتفى سلامة بهذا التعليق، فيما صرّح رئيس الحكومة سعد الحريري بشكل رسمي عن مداولات متصلة بالوضع المالي والاقتصادي تطرّقت إلى تطبيق موازنة 2019 بكل إجراءاتها، وإقرار موازنة 2020 في موعدها الدستوري، وتنفيذ خطّة الكهرباء، وبدء تنفيذ مقررات سيدر، وبدء تطبيق خطّة ماكينزي... ما قاله سلامة والحريري، بحسب مصادر مطلعة، كان هدفه «تنظيف» صورة لبنان أمام وكالات التصنيف والمجتمع الدولي، وإظهار تحلق القوى السياسية حول معالجة الوضع المالي، لذا بدا البيان كأنه «إجابات» عن الأسئلة المطروحة من وكالتي «فيتش» و«ستاندر أند بورز» عن المخاطر السياسية الناجمة عن توقف انعقاد الحكومة طوال فترة حادثة قبرشمون، وتضاؤل قدرة مصرف لبنان على مواجهة توقف التدفقات إلى لبنان وهروب الرساميل منه.
في الواقع، يمكن اختصار المشهد كله بذلك السؤال الانتقادي الذي وجّهته «ستاندر أند بورز» لمصرف لبنان أثناء عملية التقييم. فقد سألت عن نتائج العمليات المالية التي نفذها مصرف لبنان أخيراً وأدّت إلى ارتفاع سعر الفائدة على ودائع الدولار إلى 14.3%. أجاب أحد مديري مصرف لبنان بأن هذه العمليات («الهندسات») أمّنت تدفق نحو ملياري دولار، مشيراً إلى أن الموجودات بالعملات الأجنبية سجّلت زيادة بقيمة 700 مليون دولار في شهر تموز. هذه الإجابة شكّلت صدمة لدى الوكالة، فهي تعني أنه مقابل دخول ملياري دولار، خرجت كتلة من الرساميل بقيمة 1.3 مليار دولار، ليصبح الفائض الصافي لهذه الحركة 700 مليون دولار فقط (!) عندها سألت الوكالة عن صافي موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية (ما له وما عليه من عملات أجنبية)... ردّ المدير المعني بأنه سيعود بالإجابة بعد مراجعة الحاكم.
اجتماع بعبدا يحاول تلميع مشهد الأزمة المالية


بعد أيام على الـ«TOP» الذي كشف عنه سلامة، عادت أسعار الفائدة على سندات اليوروبوندز إلى الانخفاض وارتفاع العائد عليها. فقد ارتفع العائد على السندات التي تستحق في 2021، يوم الاربعاء الماضي إلى 15%، ما يعني أن المشترين يعتقدون أن درجة المخاطر مرتفعة على المدى القصير، وأن شراء السندات يجب أن يعكس هذا المستوى من المخاطر، وهو ما يترجم عملياً في ارتفاع سعر العائد عليها. فالمشكلة التي يدركها السوق ووكالات التصنيف، لا تتعلق حصراً بأزمة المالية العامة، بل بأزمة ميزان المدفوعات (صافي الفارق بين الاموال الخارجة من لبنان وتلك الداخلة إليه) العاجز منذ عام 2011، باستثناء فائض مصطنع في عام 2016 حين نفّذ مصرف لبنان «الهندسة المالية الكبرى»، كما توصف بين المصرفيين. فمن مؤشرات الأزمة المالية، أن مصرف لبنان اضطر إلى أن يسيّل كمية كبيرة من السندات التي يحملها في محفظته لتعزيز موجوداته بالعملات الأجنبية، وقد تراجعت هذه المحفظة من 11 مليار دولار في حزيران 2018 إلى 6.6 مليارات دولار في حزيران 2019، وفق أحدث الأرقام التي نشرها مصرف لبنان. أما موجوداته بالعملات الأجنبية فقد تراجعت في الفترة نفسها من 33.1 مليار دولار إلى 29.7 مليار دولار.

أي مسار لاجتماع بعبدا؟
رغم السلبية الكبيرة التي تحيط بالمؤشرات، تبدي أوساط مطّلعة على اجتماع بعبدا المالي تفاؤلاً مردّه إلى أن «الخطوات التطبيقية لما جرى تداوله في الاجتماع ستبدأ بالظهور خلال أيام، وهي ستعكس منحى إيجابياً قد تأخذه وكالات التصنيف في الاعتبار، لكن حتى لو خُفّض التصنيف، فإن المسار المعاكس قد بدأ، وسنشهد الكثير من الإجراءات والخطوات الإصلاحية الناجمة عن اجتماع بعبدا، وستستعاد الثقة، وستبدأ أسعار الفوائد بالانخفاض. هناك سلّة إصلاحات ستظهر قريباً إلى جانب إجراءات تطبيقية لكل ما ورد في موازنة 2019، وسيتركّز العمل في موازنة 2020 على النمو الاقتصادي».
المشكلة أن ما تسرّب عن اجتماع بعبدا، يثير القلق؛ فمن جهة هناك معطيات متداولة عن استغلال خفض التصنيف لإعادة طرح أفكار فشلت القوى السياسية في إمرارها في موازنة 2019، سواء الاقتطاع من أجور العاملين في القطاع العام أو من المتقاعدين، أو زيادة الضرائب على الاستهلاك مثل الـTVA أو توسيع قاعدة الشركات الخاضعة لهذه الضريبة، أو زيادة الضريبة على استهلاك البنزين، أو أي إجراءات تقشّفية قد يكون لها أثر سلبي على الاقتصاد المحتضر. وما يحصل اليوم هو أن أسعار الفائدة المرتفعة «قتلت» أي إمكانية لنمو الاقتصاد، ولم تعد هناك جدوى لأي مشروع اقتصادي بالمقارنة مع العائد الذي تدرّه الفائدة، «وحتى هذه الأموال المغامرة باتت قليلة جداً»، وفق ما هو متداول بين المصرفيين. ومن جهة ثانية، يثير القلق من أن يكون خفض التصنيف هو الحجّة لفرض أجندة صندوق النقد الدولي، وأن تكون هذه الأجندة هي المسار الذي تمشي القوى السياسية في اتجاهه لشراء الوقت بكلفة يدفعها الفقراء ومتوسطو الدخل، في انتظار ظهور النفط.