تنتشر في لبنان نحو 22 محطّة رئيسة للصرف الصحّي، يضاف إليها نحو 65 محطّة صغيرة في القرى والبلدات المُختلفة. نظرياً، يُفترض أن هذا العدد، الكبير نسبياً، من المحطّات أكثر من كافٍ لمعالجة المياه الآسنة المُنتجة في لبنان، وبالتالي الحدّ من الملوّثات الناجمة عنها. إلّا أن الواقع هو على النقيض تماماً، إذ أن 70% من هذه الأوساخ تُرمى في مجاري الأنهر والبحر من دون أيّ معالجة، والـ30% الباقية تلحقها إلى المصبّات نفسها، وإنّما بعد فصل الأجسام الصلبة والكبيرة عنها فقط. الطامة الكبرى أنّه تمّ إنفاق 1.4 مليار دولار من الأموال العامّة لإنشاء هذه المحطّات وبقيت النتيجة... برازاً ببراز.«يُنتج» لبنان، سنوياً، نحو 310 ملايين متر مكعب من مياه الصرف الصحّي، نحو 250 مليون متر مكعب منها تأتي من الصرف المنزلي، والبقية من النفايات الصناعية السائلة. «الاستراتيجية الوطنية لقطاع الصرف الصحّي» التي أعدّتها وزارة الطاقة والمياه عام 2010 تشير إلى أن أكثر من 70% من مياه الصرف الصحّي تُصرّف، من دون معالجة، في البحر ومجاري الأنهار والأودية أو يتمّ طمرها في الأرض. أمّا الـ30% المتبقية فيُعالج معظمها بطريقة أولية، أي تُفصل عنها المواد الصلبة الكبيرة، وتُصرّف بدورها، من دون أن تكون خالية من الملوّثات، في مجاري الأنهار وبقية الأوساط البيئية.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

خلال عقدين، تجاوزت قيمة الاستثمارات في قطاع الصرف الصحّي نحو 1.4 مليار دولار. إلّا أن المعطيات الميدانية تؤكّد أن هذه الأموال ذهبت هدراً، فيما تفاقمت الأزمة وتضاعفت تداعياتها البيئية والصحّية، وباتت خطورتها تفوق خطورة النفايات الصلبة، بإجماع الخبراء البيئيين والصحّيين، لا سيّما أنّ تأثير المياه الملوّثة سواء في البحر أو المياه الجوفية أو تلك المُستخدمة بالريّ تمسّ صحّة المُقيمين في لبنان وتساهم في تسريع تدمير الأوساط البيئية فيه.

محطّات تكرير لا تكرّر!
عام 1982، وضِع المخطّط التوجيهي الوطني لقطاع الصرف الصحّي (حُدّث عام 1994)، ونصّ على إنشاء 12 محطّة ساحلية كبيرة و20 محطة داخلية متوسطة الحجم لمعالجة 80% من مياه الصرف الصحّي، ويضاف إليها نحو 100 محطّة صغيرة في البلدات والقرى لمعالجة الـ20% المتبقية.
من أصل المحطّات الكبيرة الـ12 والكفيلة بتلبية احتياجات نحو 65% من المُقيمين، أُنجزت ثماني محطّات فقط، (طرابلس، شكا، البترون، جبيل، الغدير، النبي يونس، صيدا، صور) فيما لا تزال محطّات العبدة وكسروان وبرج حمود قيد الإعداد، وتنتظر محطّة ساحل الزهراني تحديد موقعها (في الصرفند أو الغازية) وتوافر التمويل لإنشائها. اللافت أن من بين المحطّات الثماني، هناك اثنتان فقط تعملان، هما محطّتا صيدا والغدير (جنوب مطار بيروت)، لكن عملهما يقتصر على ضخّ المياه على بعد 2 كلم تقريباً من الشاطئ، بعد أن تخضع لمعالجة أولية تقتصر على إزالة المواد الصلبة فقط. فيما أربع محطّات أخرى (شكا، طرابلس، البترون، والنبي يونس) تعمل جزئياً بانتظار وصلها بالشبكات، وفق مصدر في مجلس الإنماء والإعمار، واثنتان أخريان (صور وجبيل) لم توضعا في الخدمة بعد.
في المناطق الداخلية، أنجز مجلس الإنماء والإعمار 14 محطة متوسّطة الحجم من أصل المحطّات العشرين المُقرّة بالمخطّط التوجيهي، إلّا أن ثلاثاً منها (الباروك، نبع الصفا، كفرصير) لا تعمل، فيما تعاني البقية من مشاكل تقنية تؤثّر في مسار العمل فيها، أبرزها محطّة النبطية، أو تحول دون تشغيلها بالقدرة المُصمّمة لها، مثل محطّة اليمونة التي تعمل بنسبة 50% فقط من قدرتها بسبب وقوعها في نقطة مرتفعة عن المنازل، وكذلك محطّة إيعات في بعلبك التي لا تستوعب الكميات الوافدة إليها. فيما هناك محطّات تعمل جزئياً (أبلح، الفرزل، صغبين، زحلة، عيتنيت)، ومحطّتان (زحلة وجب جنين) معرّضتان للتوقّف عن العمل بسبب تحويل الصرف الصناعي إلى الشبكة العامّة. أمّا محطّة تمنين التحتا، فمشكلتها بأن الموقع الذي حُدِّد لإنشائها، سمحت البلدية باستملاكه لاستخدام خاصّ!
أمّا في ما يتعلّق بالمحطّات الصغيرة، فتؤكّد مصادر في وزارة الطاقة إنشاء نحو 65 محطّة من دون التنسيق مع الوزارة أو مجلس الإنماء والإعمار. وقد نفّذتها البلديات بتمويل من جهات مانحة، إلّا أن «معظمها لا يعمل» وفق تقرير «الاستراتيجية الوطنية».
في الخلاصة، تبيّن «الاستراتيجية الوطنية لقطاع الصرف الصحّي» الصادرة عام 2010، أن «ثلثي سكّان لبنان موصولون بشبكات تجميع مياه الصرف الصحّي، لكن 8% فقط من هذه المياه تصل إلى المنشآت الأربع العاملة (صيدا، الغدير، بعلبك، اليمونة) وتتمّ معالجتها». ورغم مرور تسع سنوات على وضع «الاستراتيجية»، إلّا أن المعطيات تفيد بأن الواقع لم يتغيّر كثيراً كون معظم المحطّات التي أُنجزت منذ ذلك الوقت لا تزال خارج الخدمة.

أسباب التوقّف ليست «تقنية»!
أطلقت عملية بناء محطّات الصرف الصحّي خلال مرحلة إعادة الإعمار، وأنيطت هذه المهمّة بمجلس الإنماء والإعمار الذي كان مسؤولاً عن إعداد دفتر شروط بناء المحطّات بالإضافة إلى تلزيم عملية التشغيل والصيانة. على مدار أكثر من عقدين، تمّ إنفاق أكثر من 1.4 مليار دولار على قطاع الصرف الصحّي. وطوال هذه الفترة، جرت العادة على توقيع عقود تشغيل مع شركات خاصّة لثلاث سنوات، يُجرى تجديد العقد في نهايتها.
في عام 2001، تمّ إصدار قانون المياه الذي نصّ على إنشاء مؤسّسات المياه (عددها أربع: بيروت وجبل لبنان، الشمال، البقاع، الجنوب)، ووضعت ضمن مهامها إدارة عملية بناء محطّات الصرف الصحّي وتشغيلها وصيانتها. لكن ما يحصل في الواقع هو أن مجلس الإنماء والإعمار لا يزال حتى اليوم يضع دفتر شروط بناء المحطّات ويلزِّم هذه العملية إلى شركات خاصّة، ليُطلب لاحقاً من مؤسّسات المياه تسلّمها. وهنا لبّ المشكلة.
أكثر من 70% من مياه الصرف الصحّي تُصرّف من دون أي معالجة في البحر ومجاري الأنهار والأودية وما تبقّى يُعالج بدائياً!


عملياً، تشير مصادر متابعة للملف إلى أن مؤسّسات المياه ترفض تسلّم المحطّات لسببين رئيسيين، هما أن عملية بناء المحطّات غير مطابقة لدفتر الشروط، ولا تترافق مع عملية مدّ الشبكات وإيصالها بها أو لأنها معطّلة ومتهالكة نتيجة الإهمال أو تشغيلها خلال فترات سابقة من دون مراعاة المعايير التقنية والعلمية. بالإضافة إلى أن مؤسّسات المياه عاجزة مالياً ومديونة لصالح مؤسّسة كهرباء لبنان، فضلاً عن أنها لا تمتلك القدرات البشرية والتقنية الكافية لإدارة هذه المحطّات المعقّدة تقنياً وتتطلّب كلفة مرتفعة جدّاً نظراً لكونها تعمل على مدار الساعة. وتعيد المصادر نفسها فشل عملية تشغيل وإدارة هذه المحطّات إلى غياب القرار السياسي بحيث تمتنع الحكومة عن تمويل مؤسّسات المياه للقيام بوظائفها وفقاً لما ينصّ عليه القانون مبقية على الوضع الشائب.

تقاذف المسؤوليات
في معرض ردّه على أسئلة «الأخبار»، لا يعترف المصدر المسؤول في مجلس الإنماء والإعمار بأزمة تشغيل، ويقول إن المجلس نفّذ «22 محطّة ووضع 17 محطّة منها في الخدمة، وانتهى من تنفيذ 4 محطّات مؤخراً على أن توضع في الخدمة في وقت قريب. أمّا المحطة المتبقية، أي محطة جبيل، فإن استكمال الشبكات يمكن أن يستغرق نحو سنة ليصبح بالإمكان وضعها في الخدمة».
إلى ذلك، تشير رندة نمر، مستشارة وزيرة الطاقة، إلى أن «مؤسّسات المياه مسؤولة قانوناً عن تشغيل محطّات تكرير المياه المبتذلة (في نطاق استثمارها)، إلّا أنها تفتقر للقدرات المالية للتشغيل وتعتمد على طلب سلف من الحكومة التي تقوم بدورها بدفع السلف إلى مجلس الإنماء والإعمار بدلاً من إعطائها لمؤسّسات المياه. وقد أبقت هذه الآلية مسؤولية الملف مُنوطة بمجلس الإنماء والإعمار». أمّا الاستثناء، وفقاً لنمر، فيتمثّل «بمنح مؤسّسة مياه البقاع سلفة لتشغيل محطّة إيعات عام 2018، وقيام وزارة الطاقة بتنفيذ محطّة تكرير في بشعله في البترون لم تنتهِ منها بعد».
بهذا المعنى، يكون مجلس الإنماء والإعمار الجهة المسؤولة، واقعاً، عن تشغيل المحطّات، طالما أنه المسؤول عن تأمين السلف المالية وإعداد دفاتر الشروط لتشغيل المحطّات وصيانتها كل ثلاث سنوات.

ما هي الحلول؟
يرى الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح أن «السبب الرئيسي لأزمة القطاع أبعد من المسائل التقنية المتّصلة بالشبكات والتمويل وغيرها، وتتعدّاها إلى تغييب تطبيق استراتيجية وطنية تقوم على معالجة فعلية للمياه وتخفيف عبء الملوّثات الناجمة عنها، فضلاً عن إعادة استخدام المياه المعالجة». ويوضح أنه «منذ التسعينيات حتى اليوم، ورغم الأموال الطائلة التي صُرفت، فإنّ أياً من الهدفين الرئيسين لمعالجة المياه لم يتحقّق. وهو ما يدفع إلى طرح التساؤلات حول دفاتر الشروط التي يعدّها مجلس الإنماء والإعمار، مع التحذير من مخاطر استمرار القطاع من دون إقرار استراتيجية وطنية ترتقي إلى مخاطر فوضى هذا القطاع».
من جهته، المدير العام لمؤسّسة مياه لبنان الجنوبي وسيم ضاهر يلفت إلى أن «التلزيمات التي ينفّذها مجلس الإنماء والإعمار يطغى عليها الطابع السياسي، وهو ما يجعل عملية استرداد هذا الملف من المجلس وإعادته إلى مؤسّسات المياه، أمراً ضرورياً من شأنه أن يعيد تصويب الواقع». ويؤكد أن «إدارة قطاع الصرف الصحّي عملية سهلة نسبياً، وأن مؤسّسات المياه قادرة على إدارتها، مع ضرورة اعتماد منهجية واضحة لمعالجة كلفة إدارة القطاع، وذلك باسترداد جزء من كلفة التشغيل عبر بيع الماء المكرّر إلى المزارعين للريّ أو من خلال توليد الطاقة من الوحول الناجمة عن التكرير».
في حين تقول نمر إن الوزارة الحالية «التزمت بالشقّ المتعلّق فيها والمتمثّل بإعداد مقاربات نظرية واستراتيجيات. ويبقى الالتزام فيها وإقرارها مسؤولية مجلس الوزراء».



نفايات المصانع ترفع حدّة المخاطر
لا تقوم غالبية المصانع بمعالجة مياهها المبتذلة الأمر الذي يؤدّي إلى تفريغ النفايات الضارّة في شبكات التجميع أو في الطبيعة، ما يزيد من خطورة مياه الصرف الصحّي، المكوّن أصلاً من مصادر مختلفة (مياه مراحيض ومياه غسيل وجلي واستحمام وأعمال التنظيف في الشوارع والمؤسّسات) تضاعف من أنواع الملوّثات وتجعلها أكثر تعقيداً وخطورة، خصوصاً في حال دُسّت في المياه الجوفية أو استخدمت في الريّ. ومن المعروف أن سوء طريقة تجميع مياه الصرف الصحّي ومعالجتها يساهمان في رفع تكاليف الرعاية الصحّية نتيجة الأمراض المتناقلة وتلويث الموارد المائية والتربة.


المعالجة وإعادة استخدام المياه
يشرح الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح أن هناك أربع مراحل لمعالجة مياه الصرف الصحّي: المرحلة الأولى وهي المعالجة التمهيدية التي تُعنى بإزالة الأجسام الصلبة والكبيرة الحجم عبر استعمال أشباك لالتقاطها ولإزالتها، وترسيب الرمال والحصى من خلال تمرير المياه عند دخولها المحطّة. وهي مرحلة على أهمية بالغة لجهة حماية تجهيزات محطّة المعالجة من الأعطال وخصوصاً الأنابيب والمضخات.
المرحلة الثانية وهي المعالجة الأولية الميكانيكية، أي ترسيب المواد الصلبة في أحواض الترسيب الأولية، بهدف الحصول على سائل متجانس قابل لأن يُعالج بيولوجياً في مرحلة لاحقة، وعلى وحول قابلة للمعالجة بشكل منفصل.
المرحلة الثالثة وهي المعالجة الثانوية البيولوجية، التي يتمّ خلالها إزالة نحو 90% من المواد العضوية الموجودة في المياه المبتذلة، والمواد العضوية الذائبة التي تتفلَّت من مرحلة المعالجة الأولية. أمّا المرحلة الأخيرة فهي المعالجة الثلاثية التي تهدف إلى تحسين نوعية المياه لكي تستجيب لمستويات محدّدة تتوافق مع مواصفات مياه الشرب.
يقول قديح إن أياً من المحطّات الموجودة في لبنان لا تقوم بالمعالجة على أربع مراحل، لافتاً إلى وجود مشكلة في تصريف الوحول، وثغرات في دفاتر الشروط تؤدّي إلى فشل تشغيل المحطّات. ويشير قديح إلى أنّ «كلفة معالجة هذه المياه مرتفعة، إلّا أن المقابل أهم بكثير. إذ يكفي إعادة استخدام هذه المياه في ريّ المزروعات وتوزيعها مجّاناً على المزارعين، فضلاً عن الوقاية من الكلفة الصحيّة والبيئية المرتفعة».