الامتناع الإسرائيلي عن مباشرة الحرب أو ما من شأنه التسبب بها، هو واحد من أهم الثوابت في استراتيجية تل أبيب تجاه الساحة اللبنانية. وعلى أساسها، يمكن فهم أفعال إسرائيل، كما «لا أفعالها»، مهما كانت مستويات الحافزية لوضع خياراتها العسكرية على طاولة القرار. لا يعني ذلك التغافل عن القدرة العسكرية الإسرائيلية وإمكاناتها التدميرية الهائلة، لكن في الوقت نفسه لا يمكن التغافل عن المعادلات والحقائق القائمة منذ سنوات، التي تحكم أفعال الجانبين في الساحة اللبنانية، سواء من العدو نفسه، أم من قبل حزب الله.أهمية هذا المعطى وثباته في أنه قائم وترسخ رغم كل المتغيرات في لبنان والمنطقة، ورغم الظروف الإقليمية التي باتت أكثر ملاءمة لإسرائيل في حال قررت خوض المواجهة العسكرية. فما الذي يحمل العدو على تثبيت موقفه وامتناعه عن المبادرة إلى شن حرب؟ يمكن الحديث عن جملة أسباب ودوافع، إلا أن السبب الذي يتقدم الأسباب كلها، هو الثمن المقدر أن تدفعه إسرائيل في حالة المواجهة الشاملة، بل وأيضاً المواجهة المحدودة بأيام قتالية. وهو بطبيعة الحال واقع تقرّ به إسرائيل، في سياق تأكيد «تعادل الردع» لجهة المفعول والتأثير، وإن تباينت الأثمان بين الجانبين.
بالطبع ساعد على ترسيخ الامتناع الإسرائيلي عن الحرب على لبنان إدارة قيادة حزب الله لمرحلة ما قبل الحرب كما هي الآن، بأن ربطت بين إرادة تفعيل القدرة العسكرية الموجودة لديها، وبين الموقف الدفاعي القائم على قرار الرد على اعتداءات العدو، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى اقتران منطقي بين أي اعتداء إسرائيلي ابتدائي وإمكان التسبب في حرب أو مواجهة لا تخفي إسرائيل أنها تعمل على تجنب تبعاتها، على اختلاف مستوياتها.
على ذلك، عمدت تل أبيب، خلال السنوات الماضية، إلى الاعتماد على الخيارات البديلة من الحرب، التي من شأنها تحقيق نتيجة الحرب نفسها أو ما أمكن من تلك النتيجة، بلا تحمّل أثمان القتال. وهي خيارات من صنع إسرائيل أو بالاشتراك مع حليفها الأميركي، أو مع اتباع الحليف الأميركي في المنطقة.
بالأمس، أعادت إسرائيل تأكيد سياسة البدائل، عبر ما يمكن وصفه بتقدير موقف، صدر عن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي المغادر منصبه حديثاً، غادي آيزنكوت، من على موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (التابع للجنة العلاقات الأميركية الإسرائيلية - إيباك).
أكد آيزنكوت «اعتقاد» إسرائيل بضرورة تحقيق الخطوات الآتية في مواجهة حزب الله:
«أولاً، العمل على تعزيز القوة الدولية في جنوب لبنان (اليونيفيل) من خلال تعزيز جهود التطبيق العملياتي للقرار 1701، وكبح نفوذ «حزب الله»، الأمر الذي يفرض على الأمم المتحدة تنشيط مهمة حفظ السلام في سوريا ولبنان من خلال زيادة عديد القوات، وتوسيع صلاحياتها على الأرض، وفرض متطلبات إنفاذ (المهمة) بشكل أكثر صرامة.
ثانياً، الضغط على الجيش اللبناني وعلى الحكومة في بيروت كي يتحمّلا المسؤولية. وبما أن الجيش اللبناني يعتمد على المساعدات الخارجية، فيمكن للدول المانحة أن تشرط مساهمتها باضطلاعه بدور أكبر على صعيدين: اعتراض الأسلحة المنقولة عبر سوريا وزيادة العمليات في معاقل حزب الله جنوب نهر الليطاني.
ثالثاً، الضغط على إيران للانسحاب، إذ أوجد الضغط الدولي المتزايد على طهران فرصة لدفع النظام نحو سحب قواته من سوريا و«مستشاريه» من لبنان. ومن شأن تعزيز الجهود المبذولة التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران أن يُضعف أيضاً المكانة الاستراتيجية لحزب الله، جزئياً، من خلال الحدّ من مدى تأثيره وراعيته (إيران) على لبنان.
رابعاً، مراقبة الحدود اللبنانية ــ السورية. فمن أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة، على الجهات الفاعلة الدولية مراقبة هذه الحدود عن كثب لمنع نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله. وتُعتبر هذه المهمة صائبة بشكل خاص في ضوء القمة الثلاثية التي عُقدت الشهر الماضي في القدس (المحتلة)، بين مستشاري الأمن القومي لإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة.
خامساً، تشجيع التعاون الإسرائيلي ــ اللبناني، أي على الحكومة الإسرائيلية بذل المزيد من الجهود لتعزيز المصالح المشتركة مع بيروت، على غرار التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية وضبط الحدود البرية والبحرية (باستثناء «مزارع شبعا» المثيرة للجدل)».
في البنود المذكورة، كما يتضح، مزيد من الخيارات البديلة من الحرب الإسرائيلية المتعذرة، والرهان على العوامل والمتغيرات الإقليمية والأفعال الدولية، إضافة إلى استثمار الوضع المتأزم في لبنان، لتحقيق أهداف إسرائيل. وفي ذلك يبرز الآتي:
واضح أن إسرائيل تراهن على مفاعيل الأزمة الاقتصادية في لبنان وإمكاناتها الكامنة في الضغط على حزب الله للانكفاء، خاصة إذا عمد الأطراف الخارجيون إلى ابتزاز الحكومة اللبنانية والمؤسسة العسكرية عبر إقران المساعدات المادية والعينية بالموقف من حزب الله والتضييق عليه.
في الوقت نفسه، ما زال الرهان الإسرائيلي على حاله تجاه قوة اليونيفيل ومطلب تغيير تفويضها عبر الإصرار على وظيفتها المفترضة إسرائيلياً في مواجهة حزب الله، الأمر الذي يعني ترقب معركة سياسية على التفويض في آب المقبل، مع المداولات التي تسبق التمديد للقوى الدولية في مجلس الأمن.
العودة إلى الرهان على مطلب إغلاق الحدود اللبنانية السورية، وإن ثبت تعذر تحقيقه الفعلي. وفي سياق هذا المطلب، برز رهان زائد جداً، بل ومبالغ فيه، على إمكان استثمار «التقارب» مع روسيا إلى حدّ جرّها إلى أفعال غير قادرة عليها، وربما أيضاً لا ترغب فيها وتتجنّب تبعاتها.
إلا أن المطلب الأكثر أهمية هو مطلب آيزنكوت الذي وضعه في خانة الخطوات التي تعتقد إسرائيل بضرورة اتباعها والحث عليها، وهي سياسة «سحب الذرائع» من أمام حزب الله، عبر ما يسميه تعزيز التعاون البيني مع لبنان وتشجيع الاستثمار المشترك في الثروة الغازية والمساعدة والتعاون على الحدود البرية والبحرية!
وأهمية هذه المطالب، للمفارقة، أنها تصدر عن غادي آيزنكوت نسخة 2019، بعد أن صدرت عن نسخته الماضية للعام 2008 «عقيدة الضاحية»، والدعوة إلى قتل البشر وتدمير الحجر في لبنان. وهذا واحد من أهم نجاحات حزب الله، في موازاة التراجع والفشل الإسرائيليين، خلال السنوات القليلة الماضية.
في المحصلة، الواضح أن امتناع إسرائيل عن الحرب في لبنان أو التسبب فيها، ما زال حقيقة قائمة، والمعطى الإسرائيلي يؤكد استمرارها، رغم إمكان تعارضها مع جملة مواقف مشبعة بالتهديدات، تصدر بين الحين والآخر من تل أبيب.