في جولتَي الأسبوعين المنصرمين، حمل الوزير جبران باسيل إلى كل من الجبل والشمال خطابين متباينين، لم يخلُوا من استفزاز متعمّد للذين قصدهم، وبينهم مَن أدخلهم في الاشتباك من غير أن يكونوا طرفاً في المنطقة. انتهت الجولة الأولى باشتباك دموي درزي - درزي، والجولة الثانية بما يشبه مقاطعة سياسية للزيارة ترافقت مع انزعاج معلن. بيد أن باسيل والمحيطين به خلصوا إلى استنتاج مفاده أن كلتا الزيارتين نجحتا لأكثر من سبب:- حصلتا رغم ما أحاط بهما، وإن غير مكتملتي البرنامج.
- ثبّت فكرة الخصومة مع أولئك الذين انفجر النزاع معهم على هامشها.
- أكد وصول التيار الذي يرأس إلى كل المناطق، كي يؤكد أن لا أبواب موصدة أمامه.
- أبرَزَ أكثر من ذي قبل قدرته على إيصال خطابه، المتشدد حتى، على غير أرضه المنسجمة مع ذلك الخطاب.
- أخيراً، جهر ــ وإن على نحو غير مباشر ــ بقيادته حملة زعامته في وجه كل من يقف في وجهها.
وجهة النظر المعاكسة أن جولتَي الجبل والشمال أفضتا إلى إخفاق قد يكون أبرز مغازيه أنه جبه، أكثر من أي وقت مضى، شارعين غاضبين لم يترددا في الإفصاح له عن عدائهما له: طرابلس وجمهور وليد جنبلاط.
لكن ماذا عن الجنوب في جولة نهاية هذا الأسبوع؟
ليس خافياً أن علاقة التحالف التي تجمع باسيل وتياره بحزب الله، تقف على طرق نقيض من حركة أمل. فالرجل، شأن الرئيس سعد الحريري، يشعر باكتفاءٍ جراء علاقة وطيدة تجمعه بأحد قطبي ثنائية حزب الله - أمل. الخصومة، المعلنة أحياناً والمضمرة في كل حين، مع حركة أمل ليست أقل أهمية من تلك التي تطبع علاقة الحريري بحزب الله. في ظن كل من رئيس الحكومة ووزير الخارجية أن ارتواءه من أحد هذين الخزانين كفيل بإبعاد شرّ الآخر عنه، ولذا يعوّل كلاهما على أحد الحليفين في الثنائية بغية تخفيف وطأة الخلاف مع الطرف الآخر.
ليست المسألة نفسها، بالنسبة إلى باسيل، حيال الدرزية السياسية. خلافه - والواقع خلاف الرئيس ميشال عون - التاريخي مع زعيم المختارة لم يُعوّضه تعاونه مع طلال أرسلان. في الواقع، منذ انتخابات 2018، بدا أرسلان في حاجة لباسيل إلى جانبه كي يقوى على نده في طائفته، تماماً على غرار حاجته الدائمة إبان المرحلة السورية إلى ضمان حصته من خلالها. حدث ذلك في نتائج تلك الانتخابات وانضواء أرسلان في كتلة لبنان القوي فور ارفضاض الاستحقاق، قبل بدء الخوض في تأليف حكومة جديدة، فإذا زعيم خلدة يحتاج إلى نائبين عونيين كي يؤتى كتلة تُمنح حق التمثل في السلطة الإجرائية. مع ذلك، تعذّر توزير إرسلان، إلا أن رئيس الجمهورية فرض الوزير الدرزي الثالث غير الجنبلاطي. في المواجهة الدرزية - الدرزية الأخيرة، وبعض أسبابها، وليس كلها حتماً، خطاب باسيل في طريقه إلى الجبل، كان وزير الخارجية أقوى مَن يخوض، سياسياً أكثر منه إعلامياً وتلفزيونياً، معركة ردّ الاعتبار لإرسلان. اجتماع الوزراء الـ11 في كتلة لبنان القوي في وزارة الخارجية أسطع مؤشر على عدم الاكتفاء بليّ الذراع السياسية، بل أيضاً توسل الصلاحيات الدستورية وتعطيل التئام مجلس الوزراء. كذلك مطالبة باسيل بإحالة حادثة قبر شمون على المجلس العدلي.
في الشمال، لم تكن الخسارة فادحة. ليس للتيار الوطني الحر بعد تربة خصبة في الشارع الطرابلسي، أضف حداثة سنّه السياسية والانتخابية في عكار. عوّل على دعم غير مفضوح تماماً للحريري، وإن لم يكن تيار المستقبل في عداد مستقبليه. الإشارة الدالة هنا، تبدّل لهجة الوزير السابق أشرف ريفي بين ليلة وضحاها من الزيارة في اليومين اللذين سبقاها: رفضها على نحو مطلق، ثم أكد أن طرابلس مدينة غير مقفلة، مفضلاً التحدث معها بخطاب مختلف. ومع أن الحريري أحد زعماء طرابلس، ولم يعد زعيمها الوحيد، بدا من السهولة بمكان - بعدما غطى ذهاب باسيل إلى هناك - عدم توقع تشدد من الزعماء الآخرين في الشارع الطرابلسي كالرئيس نجيب ميقاتي والوزير السابق محمد الصفدي.
في الجبل توخى باسيل إظهار إصراره على موطئ قدم أساسي، بعدما أضحى شريكاً فيه بفضل انتخابات 2018 وتداعياتها، في طرابلس لم يرمِ إلا إلى توجيه رسالة سياسية لا تلحّ بالضرورة على موطئ قدم لا يزال مبكراً للغاية، إلا أنها تجزم بمسألتين كي تسمع الكنّة والجارة في آن واحد: أنه أقوى الزعماء المسيحيين، وفي الوقت نفسه الحليف المسيحي الوحيد الذي يحتاج إليه الحريري.
المسألة الشيعية شأن آخر تماماً.
خلافاً للجبل والشمال، لا جدول أعمال في الجنوب سوى المقاومة


قد تكون وحدها الجدار السميك الذي صَعُبَ ولا يزال منذ عام 2005 اختراقه للتلاعب بداخله. إلى الآن، خلافاً للتفكك في البيتين الدرزي والسنّي، وبالتأكيد المسيحي، لم يسع أحد الولوج إلى داخل البيت الشيعي بغية تعريضه للاهتزاز، أو زرع بذور شقاق. عندما انفجر الموقف بين التيار الوطني الحر وحركة أمل قبل سنتين، سارع حزب الله إلى التوسط والتهدئة، مع ترجيح كفته إلى الرئيس نبيه برّي. في ذروة تباعد وجهتي النظر، يظل الحليفان الشيعيان متفقين، وقد يكون انتخاب عون رئيساً للجمهورية أبرز دليل. صوّت بري ضده، رغم أن حزب الله قاد معركة فرض انتخابه رئيساً طوال سنتين من الشغور الرئاسي. حدة نزاع رئيس المجلس مراراً مع وزير الخارجية لم تجعله يقطع شعرة تواصله مع رئيس الجمهورية، وبقي - شأن دوره على الدوام - يمثل التقاطع الذي يحتاج إليه الأفرقاء جميعاً.
في تقاسم الأدوار في الانتخابات النيابية وتأليف اللوائح، المتفق عليه أن الكلمة الفصل في البقاع لحزب الله وفي الجنوب لبري، إلا أنهما شريكان في المنطقتين. بذلك، يبدو السؤال المتوقع، الذي يسبق جولة نهاية هذا الأسبوع، أي رسالة تنتظر باسيل هناك؟
قد يكون من الغلو الاعتقاد أنه سيواجه شارعاً غاضباً كالشمال، أو منقسماً على نفسه كالجبل. من المبالغة الظن أيضاً أن الخطاب الذي يعدّه يشبه ما حمله في الجولتين المنصرمين. من الوهم الركون إلى فكرة أن ثنائي حزب الله - حركة أمل في صدد توجيه رسالة سلبية إلى الوزير الزائر على وفرة شكاوى بعضه منه. لكن المؤكد أن إيجابيتها، بكل مظاهر الترحيب التي سترافقها كجزء لا يتجزأ من فحوى خطاب باسيل في منطقة لا جدول أعمال فيها سوى المقاومة والصراع مع إسرائيل والعيش المشترك، لن تتيح التوسع في الاجتهاد أكثر مما يقتضي، وأبعد من الزيارة نفسها.