تشبه معركة التعيينات الإدارية التي تخوضها القوى السياسية معركة تأليف الحكومة. كل قوة سياسية تريد ترجمة تمثيلها الشعبي والنيابي والحكومي حصصاً إدارية، ولا سيما أن التعيينات المرتقبة مغرية، كونها شاملة وتتعلق بمفاصل حساسة في الوزارات والإدارات الرسمية وفي كل المجالات. ولأنها كذلك، باتت تشكل وجبة دسمة لجميع الطامحين والمؤهلين وغير المؤهلين، والقوى السياسية التي تريد من خلالها تعزيز حضورها في الإدارة كمفاتيح ضرورية على طريق تثبيت أقدامها في السلطة الحالية... والمقبلة.بدا واضحاً أن تحرك رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع والوزير السابق ملحم الرياشي في اتجاه رئيس الحكومة سعد الحريري، ومن ثم إيفاد الرياشي للقاء رئيس الجمهورية ميشال عون، يصب في جزء أساسي منه في سياق وضع التعيينات على مشرحة البحث والتداول. لكنه أيضاً، يتقاطع مع معلومات تتحدث عن احتمال مسارعة جعجع الى تطويق أي تسويات ثنائية يمكن أن تتشكل على طريق إدارة ملف التعيينات. ورغم تكتم القوات عن الكشف عن نتائج تحركها، إلا أن خطواتها المفاجئة على خطين تظهر أنها تسعى الى عدم استفرادها. وهي بذلك تلتقي مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي يخشى عدم حصوله على الحصة التي يريدها إدارياً. والطرفان هما الأكثر تضرراً حتى الآن مما يتردد من معلومات عن الاتجاه الذي سيسلكه ملف التعيينات، تماماً كما يحصل معهما في إدارة الشأن السياسي الداخلي.
وبحسب هذه المعلومات، فإنه لا تعيينات حالياً إلا تعيينات المجلس الدستوري المنتهية ولايته الأصلية عام 2015، والتي ستبدأ مرحلتها الأولى من مجلس النواب بانتخاب الأعضاء الخمسة والانتقال الى المرحلة الثانية في مجلس الوزراء. أما ملف التعيينات الشامل، فمتروك الى حين الانتهاء من درس الموازنة. وهو لن يطرح على مجلس الوزراء قبل الاتفاق السياسي الشامل، وعلى هذا الأساس بدأت حركة سياسية مكثفة.
تتركز المشاورات على تحديد كيفية إدارة هذا الملف، هل عبر الاكتفاء بالاتفاق السياسي على توزع الحصص كما كان يحصل سابقاً رغم كل الكلام عن تطوير وإصلاح وشفافية، أم بالعودة الى طرح موضوع اعتماد آلية التعيينات التي طرحت في الحكومة السابقة وأيدها حزب الله والقوات اللبنانية، لكنها سقطت، وصولاً الى اقتراح أن يعتمد كل وزير آليته الخاصة في التعيينات داخل وزارته؟ وهو اقتراح لا يمكن أن يرى النور في ظل الكباش السياسي الحالي لتحصيل أكبر قدر ممكن من المناصب. ليس سراً أن التيار الوطني الحر رفض ويرفض اعتماد آلية التعيينات، وتصب كل المعلومات في اتجاه رفضه حتى البحث فيها. وهذا يفضي الى واحد من أمرين، إما احتكار التيار التمثيل المسيحي، علماً بأن رئيس التيار الوزير جبران باسيل كرر أخيراً، وتحديداً من بشري، عبارة رفض الأحادية، أو الارتضاء بكيفية احتساب التمثيل الوزاري ومماثلته في الإدارة. فيعتمد بذلك مبدأ النسبية، ويحصل كل حزب سياسي على ما يحق له به، ما يترجم واقعاً بحصول التيار على ثلثَي التعيينات المسيحية وترك الثلث للقوات والمردة.
هذا هو أهون الشرور، لأن القصة أبعد من التيار وحده. فالرئيس سعد الحريري لا يرتضي هو الآخر، الحصول على أقل من الحصة السنية كاملة، وما رشح حتى الآن اتفاق سياسي بينه وبين رئيس التيار الوطني على تكريس هذه المعادلة، وصفقة تبادل بالتراضي بين المواقع التي يريدها الطرفان.
لكن دون هذه التسوية الثنائية عقبات وإرباكات، ناجمة عن السيناريو نفسه الذي حصل مع تأليف الحكومة، ويتعلق بالحصة السنية خارج إطار المستقبل. فإعطاء الحريري كل التعيينات الإدارية وحق تسمية المرشحين السنّة، يعني منحه مجدداً وكالة حصرية عن السنّة، وهو أمر لن يرتضيه معارضوه السنّة وسنّة 8 آذار ولا الرئيس نبيه بري وحزب الله (علماً بأن رئيس الجمهورية ميشال عون لم يكن يحبذ إعطاء معارضي الحريري أي حصة في الحكومة). ورفض هؤلاء نابع من أن ذلك يكرس الأحادية السنية التي تخالف نتائج الانتخابات بالكامل، وتعطي الحريري حضوراً حالياً ومستقبلياً في الإدارة لا يستحقه، وكذلك فإنه يطوق القوى السياسية بمن فيهم بري والحزب. وهو أمر لن يكتب له أن يمر بسهولة من جانب المعارضين السنّة.
كذلك فإن معارضي الحريري من أهل البيت يرفضون أصلاً كل أنواع التسويات بينه وبين باسيل، ومنح الأخير حصصاً مسيحية كاملة على حساب القوى المسيحية الأخرى، ومنها حلفاء الحريري كالقوات، علماً بأن الحريري، في لقائه الأخير مع جعجع، أبدى مرونة تجاه تبادل الدعم مع القوات إن في الموازنة أو التعيينات، ولم يرفض طرح فكرة الآلية مجدداً على بساط البحث، رغم أنها لن تكون المرة الأولى والأخيرة التي ينقلب فيها الحريري على وعوده.
وعلى خط التمثيل الدرزي، بدأ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يستشعر نية إبعاده عن تسمية كل المرشحين الدروز، وهو بذلك يدفع ثمن تخليه عن مقعد درزي في الحكومة، ويعطي معارضيه الدروز أفضلية الحصول على حصتهم الإدارية أسوة به، وهذا أمر يظهره بوضوح الحزب الديموقراطي اللبناني وتيار التوحيد. والتوتر بين جنبلاط والحريري، وبين جنبلاط والتيار الوطني الحر، يساهم في تعزيز هذا المناخ. وهذا الإرباك سيضيف مجدداً ثقلاً سياسياً على الساحة الداخلية، لأن الإشكالية الدرزية باتت تأخذ حجماً مختلفاً عما كان سائداً سابقاً، وخصوصاً أن جنبلاط بات معزولاً عن أكثرية حلفائه، إضافة الى معارضيه السابقين والجدد.
تبقى قضية التمثيل المسيحي، فلا القوات ستقبل باحتكار التمثيل ولا المردة حكماً. فإذا كانت القوات تصر على أن الآلية هي مفتاح الإصلاح والشفافية وإعطاء الأفضلية للمستحقين، فإن خوض معركة التعيينات يستوجب منها تنسيقاً أيضاً مع القوى السياسية الأخرى مسيحياً وإسلامياً. فالتعيينات تحتاج إلى ثلثي أعضاء مجلس الوزراء لإقرارها، وهذا يعني أن كل القوى السياسية محكومة بالحوار لتنسيق المواقف. لأن الخيار الحالي، إذا تم إسقاط تفاهم الحريري وباسيل، سيكون واحداً من اثنين: إما تطبيق النسبية على الجميع (سيكون حزب الله وحركة أمل مستثنيين حكماً) وإما اللجوء الى الآلية. وعلى ما يبدو، فإن اعتمادها حتى الآن هو الأكثر استبعاداً. وتالياً سنكون أمام مشهد مكرر ومستنسخ من التعيينات السابقة، في أكثر العهود مطالبة بالإصلاح. ونموذج اختيار وزراء الحكومة الحالية خير مثال.