لا انتخابات رئاسية قريبة. كذلك لا انتخابات نيابية او بلدية ولا قانون جديداً للانتخاب. لا خيارات اقليمية جذرية مستجدة حتى. لا حكومة جديدة، ولا مصلحة لأحد في الانقلاب على الآخر قبل احتساب الكلفة. لا تحتاج التعيينات الادارية المرتقبة الى مثل هذا الاشتباك بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، ما داما يمثلان معاً نصاب الغالبية الحكومية في مجلس الوزراء، ويمسكان بالكتلتين الكبريين والاوليين في البرلمان. رئيس تيار المستقبل هو رئيس الحكومة، ورئيس التيار الوطني هو الوزير الاول الذي تكاد كلمته تكون موازية لكلمة رئيس الجمهورية داخل مجلس الوزراء عندما لا يحضر الرئيس. الفريقان اللذان ابرما تسوية 2016 متفاهمان على البقاء جنباً الى جنب في الحكم. لكن ايضاً في مواجهة معظم الآخرين، اذا كان من الضروري استثناء حزب الله. اضف عاملاً جوهرياً في هذا التفاهم، الواقع في قلب التسوية تلك، انهما شريكان فعليان على قدم المساواة تقريباً في بيزنس الجمهورية. متفقان على الحصص والمكاسب والاستثمار والتوظيف والتطويع والتلزيمات وتوفير التسهيلات وتوزّع القطاعات وتسوية المخالفات والتغلغل في الشركات والشركاء والمصارف. شأن استئثارهما - الى حد كبير - بما لكل منهما في كل مفاصل الدولة: في المال والاقتصاد والامن والقضاء والادارة. لا يغفل ذلك مواقع الافرقاء الآخرين ذوي الشأن كالثنائي الشيعي ووليد جنبلاط، وبنسبة اقل بكثير القوات اللبنانية.
من اجل ذلك، يمسي مستغرباً انفجار الخلافات والسجالات التي تعلو وتهبط بين تياري الحريري وباسيل، كانعكاس حتمي لما يتكهن البعض انه بين مرجعيهما. في الوقت نفسه يظل البيزنس بينهما في منأى عن كل ما يحدث. لا يمد اي من افرقاء التيارين يده، او لسانه، على مصالح الآخر او التشهير به، أو التعرّض له كرد فعل على التناحر السياسي. كلاهما يعرف ما في ادراج الآخر من ملفات.
لعل الاكثر مدعاة للعجب، انهما باتا يمثلان، وخصوصاً منذ نتائج انتخابات 2018 اكثر مما رافق مطلع العهد، سابقة غير مألوفة في الحياة السياسية اللبنانية. منذ اتفاق الطائف على الاقل: ان تدور اللعبة السياسية برمتها، في كل آليات الحكم والسلطة، من حولهما. ليسا في موقعين متقابلين، ولا احدهما موال والآخر معارض، بل هما حليفان مسؤولان مباشرة عن «انتظام» السنوات الثلاث الاولى من ولاية رئيس الجمهورية، حتى الآن، وتنظيم ادارتها.
مع ذلك ينتمي كل منهما، في نظر شريكه، الى المحور الاقليمي العدو، المناقض له: رئيس الجمهورية ووزير الخارجية تعدّهما السعودية حليفين لحزب الله وتضعهما تالياً في محور ايران، وهذه تدرج الحريري في خانة السعودية ما يحيله خصماً في نزاع الاستراتيجيا الاقليمية والمذهبية. لا يحول ذلك دون استمرار تواصل زعيمي التيارين مع المحور الخصم. لأجل ذلك ثمة سياستان للديبلوماسية اللبنانية لا يعدو مرورهما في مجلس الوزراء كونه واهناً، يعبّر الرجلان عن كل منهما على طريقته، شأن مواقف رئيس الجمهورية ووزير الخارجية من الحرب السورية والنازحين، ومواقف الحريري من الحرب السعودية - الايرانية في اكثر من مكان. الا ان الحريري وباسيل لا يتنافران كثيراً. في وسع احدهما ان يكون في آن رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية، والآخر ان يكون في آن ايضاً وزيراً للخارجية ورئيساً للحكومة.
الاعجب بازاء ذلك كله، ان هذين الحليفين - كلاً على حدة - هما الآن اكثر من اي وقت مضى بلا حلفاء تقريباً: للحريري مشكلة مزمنة مع حزب الله مرتبطة بالخيارات الاقليمية - بعدما بات تجاهل سلاحه موقفاً مألوفاً - آخر تجلياتها تداعيات قمم مكة. ومشكلة مع جنبلاط ارتبطت تارة باستبعاد الزعيم الدرزي وطوراً بعدم الحاجة الى وجوده قربه، خلافاً لما كان عليه جنبلاط مع الرئيس رفيق الحريري كضرورة لا يُستغنى عنها، واخيراً بلغت شأناً بلدياً صغيراً ما لبث ان تضخّم في منطقة يتقاسمان النفوذ عليها بعدما حُسِبَ اقليم الخروب تاريخياً في عباءة المختارة. له مشكلة اقل مع القوات اللبنانية التي لا يسعه الاعتماد عليها فأضحت عبئاً، بيد انها تحتاج حتماً الى ان تلوذ به كي تحوز حداً ادنى من المكاسب، اذ من دون ظهير سنّي يفقد سمير جعجع تأثيره. الى ذلك كله، لا يزال يجرجر منذ تسوية 2016 اذيال انقسام داخل تياره بين مؤيدين لها ومعارضين. اخيراً وضع النائب نهاد المشنوق في منزلة الرئيس فؤاد السنيورة، بإبعاده تماماً عن دائرة القرار في التيار.
اما باسيل، فحدّث ولا حرج: خلافات مستمرة مع القوات اللبنانية من فوق السطوح، احالت مصالحة معراب من الماضي. ومع جنبلاط بسبب اصراره على مقاسمته الشوف وعاليه، والتوغل في الثنائية الدرزية. ومع الرئيس نبيه بري تحمى كلما اوحت انها بردت. ناهيك بتذمر واحتجاجات داخل التيار الوطني الحر واستقالات، رغم امساكه به بقوة، ومقدرته على الظهور ـ بحكم موقعه الى جانب الرئيس أبي الحزب وفي النظام، اقوى رئيس حزب لبناني.
مع ذلك لا تُفهم، في الغالب، الدوافع الفعلية لانفجار خلافات القطبين، وجهاً لوجه او بواسطة التيارين او بوسائط اعلامهما حتى. ولا كذلك مسارعة الطرفين الى تبديد اي انطباع بأن تسوية 2016 انهارت او توشك على السقوط، ويصران على انها باقية بعد كل ما يدليان به. احدثه في الايام الاخيرة انهما قررا، هذه المرة، ولوج باب جديد في الاشتباك الغامض، هو «تحمية» الشارع وتحريكه طائفياً. كأن البلاد خرجت من النزاع السنّي - الشيعي، كي تستعيد تقليدها التاريخي: إما المسيحيون في خطر الإستهداف السنّي لهم، أو السنّة يُراد إعادتهم إلى الغبن الذي كانوا عليه. وهو ما قد يبرّر أحياناً الحملات على الحريري والتشكيك في ادائه والغضب على صمته وتراخيه: مرة هو سامي الصلح عام 1958، وثانية هو امين الحافظ عام 1973، وثالثة هو شفيق الوزان عام 1983.