أسقط تبلور الموقف اللبناني الموحد الذرائع الأميركية التي استخدمت سابقاً، ومن ساترفيلد تحديداً، ومحاولاته فرض شروط على لبنان. بعد أن كان صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنير (متعهدّ صفقة القرن)، قد حاول إقناع الرئيس سعد الحريري بالسير في الخطّة الأميركية وقبول لبنان خسارة جزء من حقّه بالـ860 كيلومتراً مربعاً في المنطقة الاقتصادية الخالصة (أنظر الأخبار).
ومع أن مصادر الرئيسين عون وبري شديدة التحفّظ في الكشف عن تفاصيل اللقاءات، إلّا أنه أمكن استخلاص النقاط الآتية من جولة ساترفيلد البيروتية:
أوّلاً، استطاع لبنان تحويل التهديد إلى فرصة. فالتهديد بقضم الحقوق في البحر، تحوّل إلى ورقة ضغط على العدوّ بالرفض المطلق، لدفعه إلى الطلب من الأميركيين تحريك ملفّ التفاوض، ولو كان الموقف الإسرائيلي يدّعي التحفّظ حتى الآن من الطرح اللبناني بدور قيادي للأمم المتحدة في عملية التفاوض، وتكرار ساترفيلد معزوفة أن مهمة قوات اليونيفيل لا تنضوي ضمنها الحدود البحرية.
وهنا اعتبر الرئيسان عون وبرّي أن التطورات الأخيرة تفتح الباب أمام فرصة للحلّ، على الرغم من «خبث» ساترفيلد ودوره. وعلى ما أكّد في بيروت، فإن مساعد وزير الخارجية الأميركي لم يتسنّ له وضع العدو الإسرائيلي في صورة الورقة اللبنانية. ولأجل ذلك سيزور اليوم تل أبيب، ومن المتوقّع أن يعود الأسبوع المقبل إلى بيروت. علماً بأنه أمضى الأيام العشرة الماضية في الشرق الأوسط، متنقّلاً بين «إسرائيل» والعراق وأماكن أخرى.
يحاول الأميركيون تبريد الصراع على البحر وطمأنة الشركات للاستثمار بالغاز في الشمال الفلسطيني
ثانياً، يبرز التحوّل في الموقف الأميركي، بالتوقّف عن الإشارة إلى خطّ «هوف» كمرجع وحيد لأي حلّ لأزمة الحدود البحرية، والانفتاح على تفاوض جديد من نقطة الصفر يضمن الحقوق اللبنانية الكاملة. وهذا يعني نجاح لبنان في تليين الموقف الأميركي المعدّ سلفاً لقضم الحقوق اللبنانية في المنطقة الاقتصادية الخالصة جنوباً. وبحسب المعلومات، فإن العدو الإسرائيلي بدأ في الأسبوعين الأخيرين، إجراء تعديلات على جزيرة «تخيليت» التي تقع قرب الحدود اللبنانية - الفلسطينية، جنوب رأس الناقورة، وهي عبارة عن مجموعة من الصخور الصغيرة، في محاولة للإيحاء بأنها جزيرة قابلة للاستثمار بهدف التأثير على خط الحدود ودفعه شمالاً في أي عملية ترسيم جديدة مستقبلاً.
ثالثاً، تراجع الأميركيون عن رفض دور الأمم المتحدة في المفاوضات، وأن العرض الوحيد الممكن هو تفاوض ثنائي برعاية أميركية، كما كان يطرح ساترفيلد منذ ثلاثة أعوام، وكرّرها لاحقاً في الشهر الأخير (انظر الأخبار). وهنا كسب الأميركيون قبولاً لبنانياً بدور أميركي فاعل في التفاوض، وصفه ساترفيلد أمس بأنه سيكون دور «مساعد ومسهّل».
رابعاً، على عكس ما يحاول العدوّ والأميركيون ترويجه، عن أن «خط أنابيب غاز شرق المتوسط» الإسرائيلي انطلق فعلاً، فإن المعلومات تؤكّد أن المشروع يعاني من أزمة خطيرة. فهو بالدرجة الأولى لم يستوفِ حتى الآن جدواه الاقتصادية، ما لم تنضمّ إليه دولة ثالثة غير «إسرائيل» واليونان. من هنا تبرز المحاولات الأميركية السابقة لإدخال الغاز اللبناني في هذا الخط. وبحسب آخر الأرقام، تتجاوز كلفة المشروع الحقيقية عتبة 15 مليار دولار أميركي، فيما يروّج العدوّ الإسرائيلي أن كلفة المشروع لا تتجاوز 8 مليارات دولار، فضلاً عن صعوبة مدّه في مياه بعمق يتجاوز 3300 متر تحت سطح البحر، في ظلّ اعتراض تركي واسع. وينافس الخط المصري - الليبي، أو الخط الأخضر الواصل إلى إيطاليا والمدعوم روسيّاً، الخط الإسرائيلي، وبكلفة أقل.
خامساً، برز في الآونة الأخيرة تطوّر خطير على قطاع الغاز الإسرائيلي، وخصوصاً بعد سقوط الصاروخ «أم 75» على مدينة تل أبيب ولاحقاً في المعارك التي شهدها قطاع غزّة مؤخّراً. وبحسب المعلومات، فإن ما حصل ضرب دورة التراخيص الإسرائيلية الاخيرة التي كان من المفترض أن تبدأ قبل نحو شهر، وخسر العدو حوالي 50 مليون دولار أميركي هي كلفة الترويج لهذه الدورة. ومع أن وزارة الطاقة الإسرائيلية ونتنياهو بذلا في الأشهر الماضية جهوداً حثيثة لحضّ الشركات الأوروبية والآسيوية والأميركية الكبرى على الانخراط في دورة التراخيص، إلا أن جهودهما باءت بالفشل، وانسحبت مثلاً إحدى الشركات الهندية الكبرى من أعمال التنقيب، فضلاً عن سحب شركة «كاكسون» الأميركية فريقاً تقنياً كان قد حضر الشهر الماضي للاطلاع على المعلومات الجيولوجية المتوافرة.
محاولة للقضم
قبل نحو أسبوع، أبلغت قوات اليونيفيل الجيش اللبناني نية العدو الإسرائيلي البدء بتطوير السياج التقني في رأس الناقورة وصولا الى النقطة b1 التي تحتلها اسرائيل من ضمن المناطق المتحفظ عليها على الخط الازرق. السبت الماضي، بدأ العدو بالعمل في المحيط، إلا ان الجيش ابلغ قوات الطوارىء رفض لبنان قيام العدو بأي تغييرات في تلك البقعة، خصوصاً انه يحاول تثبيت امر واقع في تلك المنطقة استكمالاً لنواياه في قضمها لما تشكله من اهمية على الصعيد الميداني - العسكري، ولاهميتها في تحديد الحدود البحرية. وكاد التوتر على المستوى السياسي، مع تمسك لبنان بحقوقه، ان يطيح بأي طرح تفاوضي اميركي، قبل ان يعود العدو ويتراجع عن خطوته، بعكس ما حدث في منطقة عديسة الملاصقة لمستعمرة مسكافعام، حين فرض امرا واقعاً.