للوهلة الأولى يبدو الأمر مزحة أو مقلباً كوميدياً في برنامج الكاميرا الخفيّة، أو مشهداً من أحد الأفلام اللبنانية «التيرسو» التي تغزو الصالات هذه الأيام. لكنّ ذلك للأسف حدث بالفعل. جاء «المفتش كولومبو» إلى العمارة التي تقع فيها مكاتب جريدة «الأخبار»، في مهمّة استقصائيّة سريّة وخطيرة للغاية على ما يبدو. بالتزامن مع عملية حصار «قصر بسترس» يوم الإثنين الماضي، بجنود ملثمين من النوع الذي نشاهده في العمليات الأمنيّة العالية الخطورة، كان عناصر من مديريّة أمن الدولة ينسلّون إلى «الكونكورد» بحثاً عن شيء غامض لا نعرفه. توجّهوا إلى إدارة المبنى، طلباً لتسجيلات الفيديو التي التقطتها كاميرات المراقبة. لا بد أنه خطب جلل يتعلّق بالأمن القومي. امتثلت إدارة المبنى، وعرضت ما تملكه من تسجيلات تعود إلى الأيّام الثلاثة الماضية. لكن الشباب الطيبين خاب أملهم. ومضوا بخفّي حنين، بعدما تثبتوا من أن التجهيزات الالكترونية في الكونكورد ذاكرتها قصيرة فعلاً… كما شعرنا في اليومين الماضيين بحركة غريبة حول مكاتبنا، قد تكون عمليات تقصّ ومراقبة أمنيّة لتحركات المحررين والموظفين والزوار. في الوقت نفسه عرفنا أن عناصر أخرى تتحرّى عن منزل رئيس تحريرنا الزميل إبراهيم الأمين، وأخذها التيه إلى عناوين قديمة. عساهم لم يحاصروا منزله القديم على طريقة «أبو نادر». نعم نحن أقرب إلى «ضيعة ضايعة» منّا إلى فضيحة «ووترغيت»، أو قضيّة زرع الميكروفونات الشهيرة في مكاتب جريدة «الكانار انشينيه» الساخرة في فرنسا السبعينيات…ما هذا الفيلم البليد يا شباب؟ لماذا يريد فرسان «أمن الدولة» أن يجرُدوا زوار مؤسسة إعلاميّة، ويتجسسوا عليها؟ محاولة مراقبة عمل جريدة كـ«الأخبار»، أي مراقبة مصادرها، واعاقة عملها الحر، في عيد شهداء الصحافة، وبعد ثلاثة أيّام من «يوم حريّة الصحافة العالمي»؟ هذا درس في الديمقراطيّة فعلاً، يعطي صورة بليغة عن الدولة الأمنية التي يشتهيها بعض أباطرة النظام الجدد في لبنان، ممن يريدون أن يبسطوا سلطتهم على كل شيء. لعل هذا التسلل الأمني جاء ردّاً على احدى آخر «جرائم» «الأخبار». لقد خصّصت غلافها المعنون «واشنطن ليكس 2»، في الرابع والعشرين من نيسان/ إبريل لمحضر اجتماع وفد رسمي لبناني مع دايفد ساترفيلد مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى. المحضر الذي ورد في برقية من سفارة لبنان في واشنطن الى وزارة الخارجيّة، يتضمّن مقاطع مذهلة وصادمة، تعيد التأكيد على فوقية الكابوي الأميركي وغطرسته، وازدرائه لضيوفه وللشعب الذي يمثلونه، وطريقته الجلفة التي تشبه الاملاءات من دون أي اصغاء، وانحيازه المطلق إلى مصالح العدو الاسرائيلي واصراره على فرض شروطه كاملة، في ما يخص سيادتنا الوطنيّة وحقوقنا. و«الأخبار» لم تفعل سوى الحد الأدنى من واجبها، ماضيةً في تحقيق أحد أهم أهدافها: كشف المسكوت عنه واطلاع الرأي العام على حقيقة ما تضمره لنا السياسات الاستعماريّة السافرة، وكل أجرائها ووكلائها في الداخل.
طبعاً هذا النشر قد يزعج ويغيظ بعضهم. لكنّنا موجودون تحديداً، كي نزعج ونغيظ ونفضح. نعتبر أن من حق الشعب أن يعرف كل ما يحاك ضد مصالحه وحقوقه. هذا ما فعلناه ونفعله منذ سنوات، عبر نشر الأوراق والوثائق والبرقيات والتقارير السرية المختلفة التي تفضح تآمر الرجعيات النفطية، وأنظمة الخضوع لأميركا وإسرائيل، كما تكشف حقائق محرجة ومهمّة على المستوى اللبناني الداخلي، في السياسة والاقتصاد والحقوق. هذه «التسريبات» أو الليكس التي بدأها جوليان أسانج ورسّخها إدوارد سنودن، لعبت دوراً في تحريك الرأي العام وخلق المضادات الحيوية ضد مخططات التآمر على الشعب. نعرف أن كل ذلك لم يخلق لنا الاصدقاء فقط! ونحن نعي تماماً اليوم تضافر مصالح كثيرين في العواصم الغربية والعربية وسفاراتها، ولدى جزء مقلق من الطبقة الحاكمة، لإسكات «الأخبار» وإخضاعها، أو مهادنتها واحتوائها واغرائها. لهم أن يحاولوا…
طبعاً ليس أسهل من السخرية من جهاز أمني يراكم الاخفاقات الفاضحة، ويدخل كتركيبة في سياق «لزوم ما لا يلزم» برأي كثيرين، أو على الأقل ولد ويعيش ضمن لعبة المحاصصات والتوازنات «الطائفيّة» المقيتة، باحثاً لنفسه عن دور. لكنّنا نفضّل أن نوجّه إصبع الاتهام إلى من يقف وراءه، ومن يقف وراء من يقف وراءه. حين افتضح أمر زيارة «بدري أبو كلبشة» الخرقاء إلى «الكونكورد»، وبعد محاولات تكذيب وانكار، عاد الجهاز الأمني، ليعترف بـ«الزيارة». وأوضح البيان الصادر عنه أن كل ما فعله قانوني، وتم بإشارة قضائيّة. في لبنان ليس هناك ما هو أظرف من الاختباء خلف القرار القضائي. من يسمع يصدق أن قضاءنا مستقل، في حين أنّه يعيش تحت رحمة الطبقة الحاكمة الفاجرة والجشعة والوقحة، ويرزح تحت نيرها.
الطبقة الحاكمة تتمرجل على عجوز في المنصوريّة، أطلق العنان لقهره وغضبه أمام الكاميرات

وحين يصرّح وزير الخارجيّة جبران باسيل أنّه ينتظر قرار القاضي كي يتصرّف (في قضيّة البحث عن مصادر تسريب الـ«واشنطن ليكس»)، يريدنا أيضاً أن نصدّق. هذه الطبقة التي تحكم الخناق على القضاء هي من تقرر، وهي من تأمر، وهي من تراقب، وهي من تحاول بسط سلطتها وهيمنتها من خلال ديكتاتوريّة مموّهة اسمها «مملكة الطوائف». وهي من تتمرجل على رجل عجوز في المنصوريّة، أطلق العنان لقهره وغضبه أمام الكاميرات. هذه السلطة المقلقة، متهَمة حتى إثبات العكس، في اضطهادها الصحافيين الشرفاء كما الدبلوماسيبن الشرفاء، أي بشكل أو بآخر حراس الكرامة الوطنية.
سفير لبنان في واشنطن (صاحب البرقية التي أوصلها وطني شريف إلى«الأخبار»)، تساءل في منشور مضحك - مبكٍ على فايسبوك: «أمّا وقد أحبّت الصحافة تسميتها «واشنطن ليكس» تيمّناً بـ«ويكيليكس»… فيمكن حابين يكون مصيرهم متل جوليان أسانج». هذا الكلام يجمع بين الوقاحة والسذاجة. إنّه المُستَلَب وقد تماهى مع سيّده واستقوى بسطوته وسوطه. السفير كابريال عيسى يعتبر، مثل وزيره، أن القمع هو القاعدة الطبيعية، لكل من يقارع السلطة أو ينتقدها، أو يكشف للرأي العام حقائق قذرة تتعلق بحقوقه وسعادته وحياته! والسفير يؤيّد الطريقة القمعيّة التي يتوسّلها الكاوبوي الأميركي، بتواطؤ من ديمقراطيات غربية عدّة، لتكميم الاعلام، ومنع النقد وكشف الحقيقة واضطهاد الأصوات الحرّة. وكما أسلفنا يستقوي بأميركا علينا نحن تحديداً. هو وأسياده يحلمون بمحاصرة «الأخبار» ومنعها من نشر ما تراه مفيداً لقرائها. نعم أسانج مثال مشرّف لكل صحافي حرّ. مصيرنا ومصير أسانج هو تحرر شعوبنا… أما مصيرك سعادة السفير، إذا لم تفتح عينيك وتحكم عقلك وضميرك، فهو أن تبقى ذلك التلميذ النجيب لفيلتمان، يملي عليك إرادته ورغباته، ويرسم لك حدوده، ويحدد لك الخط الفاصل بين الحق والباطل.