بعد إقرار خطة الكهرباء يبدو، بحسب تصريحات كبار المسؤولين، أن «الدور» سيكون لحل القضايا البيئية، بعد الانتهاء من بحث مشروع الموازنة واقراره. بعيداً عن العموميات والشكليات المتعلقة بالبيئة التي يتضمّنها البيان الوزاري، فإن السؤال هو: أي قضايا بيئية يُمكن أن تُبحث وتُطرح لها حلول (ذات كلفة بطبيعة الحال) بعد إقرار الموازنة؟ وأي استراتيجية بيئية ستُبحث بعد إقرار خطة الكهرباء، فيما يفترض أن تكون مشاريع الطاقة وخططها من ضمن هذه الاستراتيجية؟قد يكون هذا الاصرار على الإسراع في بتّ الأمور طبيعياً بعد طول تأجيل ومماطلة. الا أن ما يدعو الى القلق، ان الخيارات التي يتم النقاش حولها، من قبل أحزاب السلطة تحديداً، مصنّفة في معظمها «استراتيجية»، اي انها معمّرة لأكثر من عشرين سنة، وهي ملزمة لجيلنا ولأجيال مقبلة. من هنا، يصبح البحث في الأسس الفلسفية والأخلاقية لهذه الخيارات واجباً، لناحية الاستدامة والعدالة والمنفعة والكلفة والمخاطر ومعايير السلامة... الخ
ومع الاعتراف بصعوبة تحديد المخاطر، ينبغي الاقرار أيضاً بأن الاصعب هو تحديد كلفة الخطورة، او مقدار ما تستحقه المنفعة من مخاطر. وهذا يتطلب تحديد مفهوم المنفعة اولاً، ولمصلحة من، وامكانية تحديد المخاطر ومداها الجغرافي والزمني والوجودي. فعندما تصبح كلفة المخاطر عالية جداً (بمعنى أنها وجودية لجيلنا والأجيال المقبلة)، لن يعود ممكناً الحديث عن منفعة. كما أن اسس العدالة تتطلب مقارنات بين الجيل الحالي والاجيال المقبلة. فأي مورد مائي متجدد لا يفترض سده وحرمان الاجيال المقبلة من نوعية المياه المتدفقة والمتجددة، خصوصاً بعدما لمسنا عملياً نتائج انشاء سد القرعون. كما أن النفط والغاز موردان غير متجددين تشكلا عبر ملايين السنين، وليس من العدل تلزيم استخراجهما في سنوات محدّدة، وحرمان الاجيال المقبلة منهما كحاجة طاقوية استراتيجية.
هذه التقييمات يفترض أن تكون جزءاً من الاستراتيجيات او السياسات قبل إقرار الموازنات. الا أن ما غلب على خططنا حول الملفات الاساسية كان دائماً نهج خطط الطوارئ بعد حصول الكوارث. وهو نهج برعت مؤسسات طارئة مثل مجلس الانماء والاعمار في صياغة التوافقات الضرورية بين القوى المتحاصصة عليه، خلال ربع قرن، بغض النظر عن آثاره البيئية والاقتصادية والاجتماعية، وأثره المدمر على ديمومة الموارد، حتى وصلنا الى المحظور في كل الأمور تقريبا.
يصعب ايجاد مقاييس كمية للمنافع او الاضرار والمخاطر ومقارنتها لتحديد الخيارات. ولكن، يمكن الانطلاق من مبادئ لا تزال صالحة للتقييم، رغم كل الضجيج الذي تفتعله كبريات الشركات حول العالم، والتي تعتبر الحديث عن البيئة والمخاطر وحقوق الناس والاجيال المقبلة بمثابة عوائق أمام الاستثمارات الكبرى.
من أهم هذه المبادئ أن كل كبير خطير، اضافة الى كونه بشعاً. وأكثر ما يثير الخوف والقلق في المشاريع البيئية والإنمائية الكبرى التي ستعتمدها الدولة هي انها «كبرى»، إن لناحية الاستثمارات، او لناحية طبيعتها المركزية والاحتكارية، او لجهة حجم ضررها ومخاطرها وما ترتبه من زيادة في الدين العام. هذا ينطبق على إنشاء السدود لجمع المياه بدل ترشيد الاستهلاك ووقف الهدر وعدالة التوزيع، وعلى انشاء محارق مركزية للنفايات بدل التخفيف ولامركزية الفرز، وعلى انشاء محطات كبيرة لمعالجة مياه الشرب بدل حماية المصادر الطبيعية، وعلى إنشاء محطات مركزية كبرى لمعالجة مياه الصرف بدل ترشيد استهلاك المياه اولاً. كما ينطبق على انشاء مزيد من المحطات الحرارية المركزية لإنتاج الطاقة بدل تشجيع الإنتاج اللامركزي عبر محطات صغيرة من طاقات نظيفة كالشمس والرياح وقوة دفع المياه... وعلى وضع منصات كبرى للتنقيب عن النفط والغاز وبدء الاستخراج قبل إنجاز استراتيجية للطاقة، وعلى استغلال الأراضي الصغيرة في المدن لإنشاء أبراج ضخمة بشعة تدمر البنى التحتية بدل وضع ضريبة على الشقق الفارغة، وعلى تخريب الاماكن الخضراء في التلال من أجل مشاريع «سياحية» بدل انماء الريف. الأمر نفسه ينطبق، أيضاً، على انشاء مزارع حيوانية كبرى لانتاج اللحوم الحمراء والبيضاء ومشتقاتها مع ما تسببه من انبعاثات وتلوث وزيادة السمنة والأمراض العصرية، وعلى تطوير البنية التحتية لاستجلاب مزيد من السيارات الخاصة وزيادة الزحمة والتلوث والأمراض وضرب الاقتصاد الاسري...
فعن اي معالجة للقضايا البيئية نتحدث اذا لم تكن لدينا استراتيجية للتنمية المستدامة، تشمل كل القطاعات، متقشفة لناحية حجم مشاريعها، حمائية بدل أن تكون مغامرة، توفيرية بدل أن تكون استثمارية، صغيرة ومتواضعة بدل أن تكون كبيرة ومتكبرة، عادلة ولامركزية بدل أن تكون احتكارية، ديمقراطية تحفظ حقوق الأجيال المقبلة بدل أن تكون قهرية وتسلطية واستبدادية...؟