تماماً، كما أساءت الطبقة السياسية الحاكمة، منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، إدارة الملفات الاقتصادية والمالية والنقدية، وراكمت الدين العام وخلّفت نظاماً اقتصادياً غير منتج، ومهدّداً بالأزمات الدائمة، تدير الطبقة السياسية اليوم ملفّ الموازنة للعام الجاري 2019.وهذه الفوضى في خطّة التقشّف لا تقف عند حدود تظهيرها والإعلان عنها وتقديمها للرأي العام، بل إنها تعاني مشاكل عضوية في المضمون والإجراءات. ونتيجة سوء الإدارة هذا، وإصرار الطبقة الحاكمة على تحميل الفئات الأضعف والأقل استفادة من القطاع العام مسؤولية الأزمات المتراكمة في ما تدّعيه السلطة إصلاحاً أو إجراءات تقشفيّة لإنقاذ البلاد، انفجرت بوجهها أزمات جديدة بالجملة على شكل اعتراضات وإضرابات واعتكاف عن العمل في أكثر من قطاع حيوي في البلاد. هكذا، بعدما أفسدت الطبقة الحاكمة وعبر نظام المحاصصة وتقاسم الفساد، القطاع العام وضربت الهيئات الرقابية والقضاء ومجلس الخدمة المدنية وسمحت بنشوء إدارات متفلتة على شكل إقطاعيات في مصرف لبنان والضمان الاجتماعي والمرفأ وفي كل إدارة عامة تقريباً، تأتي السلطة اليوم، تحت عنوان التقشّف وخفض النفقات، لتقرّر استهداف الموظّفين والمتقاعدين، مدنيين وعسكريين.
وبمعزلٍ عمّن حرّّك بعض الاعتراضات والإضرابات، ولا سيّما إضراب موظّفي المصرف المركزي، إلّا أن مطالب هؤلاء الموظّفين محقّة، إذ لا تستطيع الطبقة الحاكمة بعد عشرات السنين من آليات التوظيف المعتمدة والاتفاقات والوعود والحقوق التي توظّف الموظفون على أساسها في القطاع العام، أن تحمل راية خفض الرواتب تحت عنوان إصلاح أخطائها. وبدل أن تشرع الدولة في عمليّة إصلاح حقيقية في آليات التوظيف وكيفية إدارة القطاع العام وتمنع التدخلات والتوظيف العشوائي ووقف منظومة 6 و6 مكرّر، وبدل أن تبدأ بمحاسبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونقض السياسات النقدية والمالية والاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى أزمتها الحالية، وبدل تعيين إدارة جدية للمرفأ، وبدل تطوير الضمان وخدماته، وبدل إنصاف العسكريين عبر ضم الملحقات إلى أساس رواتبهم، تذهب السلطة إلى الحل الأسهل بالنسبة إليها، والأصعب على الحلقة الأضعف، بمحاولة المس برواتب الموظّفين.
وفوق هذا وكلّه، ومع كل التوتر القائم في البلد على خلفيّة خطّة التقشّف، ارتأت الحكومة في عطلة نهاية الأسبوع عدم استكمال اجتماعات مناقشة الموازنة، بذريعة حاجة الوزراء إلى زيارة مناطقهم ومتابعة شؤونها، لتترك الساحة لتحالف المصارف يبث أجواءً من التخويف والتهويل على المواطنين باحتمال انهيار اقتصادي كبير في حال الضغط عليها. مرة جديدة، البلاد تحتاج إلى واضعي سياسات، لا إلى محاسبين يقتطعون مالاً من هنا أو من هناك!