في بداية كل فصل، أتطفّل على طلابي الجدد لمعرفة مدى اطلاعهم على قضايا العمال والنقابات، بداعي الفضول والرغبة بمناقشتهم حول الموضوع الأقرب الى قلبي. معظم هؤلاء الطلاب هم طلاب علوم سياسية أو علاقات دولية؛ ولدى طرح سؤال بسيط عن ماهية النقابات العمالية، يسود صمت ممزوج بضجر، يكسره أحياناً جواب واحد صحيح، وغالباً ما يكون خجولاً. يختلف الأمر كلياً عندما ألوّح بالأحرف الثلاثة إن. جي. أو. فيتحول الصف بسحر ساحر الى خلية نحل ومزايدة حول عمل هذه المنظمات وأهدافها، وغالباً سيئاتها. لم يعد الطلاب يصدمون حين يقال إن عمل تلك المنظمات يرتكز على مفارقات تشبه تناقض «المغالومانيا والمسيانية»، الذي وصف به المؤرخ الكبير اريك هوبزباوم السياسة الخارجية الأميركية. ولكن ما سبب هذه المفارقة؟ هل يعود ذلك الى تأثير الجهات المانحة على إنتاج المعرفة؟ أو هو يؤشر الى اندثار الحركة العمالية الى غير رجعة؟لنعود خطوة الى الوراء. وفق ديفيد هارفي، تحتم النيولبرالية ــــ بغضّ النظر عن المصلحة العامة ــــ أن تؤمن الدولة البيئة الحاضنة لرأس الأموال والاستثمارات بغية تحقيق النمو الاقتصادي المرجو (وبحسب النظرية الأساسية يؤدي هذا النمو الى تحسين الأوضاع المعيشية تلقائياً للسكان كافة، مع العلم أن التاريخ أثبت أن هذه النظرية خاطئة). ومن هذا المنطلق، من المنطقي أن تقوم الدولة بتحييد النقابات وإضعافها، كونها تشكل عائقاً، وبالتالي تحرر رأس المال والاستثمارات من أي كابح لـ"حرية الاستغلال" أو "حرية تحقيق أرباح طائلة". في العراق الذي اعتبرته نعومي كلاين حقل تجارب لتطبيق أقسى أشكال النيولبرالية، نرى كيف تمسّك بول بريمر بقانون عمل صدام حسين الكابح للنقابات العمالية الصادر عام 1987 والذي حافظ عليه الأميركيون حتى عام 2015، ليتم الاستيلاء من ناحية أخرى على موارد البلاد وتفشي الاستثمارات الأميركية ومنح الشركات الأجنبية حقوق الملكية الكاملة في شركات عراقية وخصخصة المؤسسات العامة، دون حسيب أو رقيب.
إن هذه الحريات "السيئة" كما يقول كارل بولاني تترافق مع ترويج للحريات "الحسنة"، أي حرية التعبير وحرية التنظيم، ولكن كلتاهما، الحريات السيئة وتلك الحسنة، تنبعان من المصدر عينه، أي النيولبرالية الهادفة الى إضعاف دور الدولة و"توضيبها كالبساط ووضعها في زاوية الغرفة". وبالتالي تترافق السياسات النيولبرالية مع تكاثر المنظمات غير الحكومية التي تبشر بالحريات على طريقة "سماسرة الديموقراطية" والحوكمة. وبوفق شيلا كارابيكو، ترتكز إحدى الفرضيات على أن هذه المنظمات تروج لتلك الحريات تمهيداً لتحقيق مصالح المانحين وبسط سيطرتهم على المنطقة العربية، مثلاً من خلال التحرير السياسي والإصلاحات السياسية المحدودة التي تؤمن هيمنة الشركات الغربية. وتشير نعومي كلاين مثلاً الى أن يو. اس. ايد. جنّدت بعد غزو العراق أموالها لتحضير الأرضية المناسبة لتطبيق أبشع أنواع اقتصاد السوق.
والآن لننظر حولنا. يهدف قانون العمل اللبناني الصادر عام 1947 الى تأمين البيئة الحاضنة لأصحاب الرساميل وأصحاب العمل لتحقيق أرباح طائلة، من دون التزامات لجهة حقوق العمال وإمكانية تجسيد هذه الحقوق: إن نظام الترخيص المسبق لإنشاء النقابات يحدّ من حرية التنظيم، ولا يزال لبنان متخلّفاً عن إبرام اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 المتعلقة بالحرية النقابية وبحماية حق التنظيم. وتقتصر حماية قانون العمل للحرية النقابية على المادة 50 المتعلقة بصرف القيادات النقابية. غير أن تجربة تأسيس نقابة عمال سبينس في 2015 برهنت أن هذا النص لا يحمي القيادات النقابية في فترات تأسيس النقابات.
كما سمح خضوع الاتحاد العمالي العام منذ نهاية التسعينيات للتدخلات السياسية وعملية "تفريخ" النقابات والاتحادات، لتجميد الأجور لفترة طويلة (1996-2011) ولخفض الضرائب على الأرباح وزيادتها على استهلاك الأسر.
وبعدما نجحت هيئة التنسيق النقابية في انتزاع سلسلة الرتب والرواتب عام ٢٠١٧، استهدف إضعاف هيئة التنسيق النقابية الى الحد من اعتراضها وتحركاتها. وتستعد الطبقة السياسية اليوم لإلغاء هذه السلسلة بهدف ترشيد النفقات العامة، بالتزامن مع حماية المصارف من أي ضرائب جديدة ضرورية، ما يعيدنا الى تفسير هارفي للنيولبرالية.
وفق هارفي، أدت هذه النيولبرالية الى قيام تنظيمات بعيدة كل البعد عن الأحزاب السياسية والتنظيمات العمالية، وهي تتركز حول حركة المجتمع المدني الأقل تسييساً، ما يفسر تحييد النقابات العمالية اليوم. ففي لبنان، يفيد بحث جديد، قامت به ماري نويل أبي ياغي وليا يمين، بأن 13% من الشباب ينتمون حالياً الى أحزاب سياسية. وتفسر شانتال موف أن عدم القدرة على التحرك السياسي يعود الى حد كبير الى هيمنة اللبرالية. يبدو إذاً، أن التعاطي مع النقابات من باب الرومانسية، وكأنها تنتمي الى زمن بعيد لا يعرفه طلابنا اليوم ولا يكترثون له، شيء ممنهج ومخطط له، ويدلّ مرة أخرى، وفق هارفي، على دور الحركة العمالية والصراع الطبقي في مسألة أو إعادة تمركز سلطة النخبة.
بالمناسبة، رأيت اليوم (أمس) في الصباح الباكر عشرات الرجال في الستينيات، اتضح أنهم عسكريون متقاعدون، يتمركزون في الباحة الخلفية للمصرف المركزي مع لافتة كبيرة "نريد دولة القانون والمؤسسات". استدرت وتابعت طريقي على دراجتي الهوائية بحماسة أتمتم… ها نحن نطالب بدولة من أمام المصارف. نطالب بدولة تدافع عن عمالها وموظفيها وشعبها المأجور في وجه أصحاب العمل والمصارف وإرشادات البنك الدولي وصندوق النقد. نطالب بدولة تكون معنا في الصفوف الأمامية ضد المصارف ورأس المال. وأعتقد أن الدولة التي نطالب بها هي المعلمون والجنود والموظفون والعمال الذين سيكونون على موعد مع مواجهة النخبة الحاكمة عندما تقرر، إن قررت، أن يقتصر التقشف على اقتطاع الرواتب وزيادة الضريبة على الفقراء دون المسّ بالأغنياء. فليقرروا.

* باحثة زميلة في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية