لم ينطوِ كلام رئيس الجمهورية ميشال عون من بكركي، الاحد الفائت، على توجيه رسائل الى اكثر من فريق معني بانجاز موازنة 2019، مقدار ما توخى رسالة واحدة محددة، هي اصراره على ادراج مشروع القانون في الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء الخميس. ورغم ان احالتها في هذا الموعد قد يكون اكثر من متعذر بسبب عدم اكتمال المشاورات المحوطة بها، الا ان الطريقة التي يقارب عون تعامله مع الموازنة، هي نفسها التي جرّبها مع خطة الكهرباء الى ان أُقرّت ببنودها كلها بالاجماع في مجلس الوزراء في جلسة 8 نيسان.حينذاك اصرّ رئيس الجمهورية، على اثر جلسة اللجنة الوزارية المكلفة مناقشة خطة الكهرباء في 5 نيسان، على ان يكون الغد 6 نيسان موعد الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء لاقرارها، بعدما تيقن من انها أُشبعت ما يكفي درساً ومناقشة ومراجعة وتعديلاً حتى، فلوّح بطرحها على التصويت في هذه الجلسة بغية فرض اقرارها، مصراً على انها استنفدت مهلها. بيد ان رئيس الحكومة سعد الحريري رغب اليه في ارجاء الجلسة من السبت الى الاثنين 8 نيسان، مع التعهد باقرارها دونما الحاجة الى طرحها على التصويت. في عطلة نهاية الاسبوع اكب رئيس الحكومة على تذليل العراقيل الاخيرة. في اليوم التالي أُقرت الخطة.
لم تكن النبرة العالية التي خاطب بها رئيس الجمهورية، من بكركي، من غير ان يسمّي احداً او يوجه اصابع اتهام الى احد، الا تأكيداً على أن المهلة القصوى الممنوحة لانجاز التعديلات الاخيرة على مشروع الموازنة، قاربت بدورها النفاد. استند عون في تضييقه المهل الى ما تم الاتفاق عليه عشية جلسة مجلس النواب في 6 آذار المنصرم، وهو التوافق على الاجازة للحكومة اعتماد القاعدة الاثنتي عشرية للانفاق حتى 31 ايار، يكون في هذه الغضون، في مهلة تمتد الى قرابة ثلاثة اشهر، قد تمكن مجلس الوزراء اولاً، ثم مجلس النواب، من مناقشة مشروع قانون الموازنة واقراره. سرعان ما لاحظ الرئيس تباطؤاً متعمداً توخى المماطلة في احالة الموازنة على مجلس الوزراء مع انقضاء آذار، بينما يوشك نيسان على الانقضاء خلال ايام قليلة، دونما وصول المشروع الى مجلس الوزراء حتى. اضف الوقت الذي تتطلبه مناقشته في لجنة المال والموازنة، ثم في الهيئة العامة. بذلك رمى موقف عون الى اشعار القوى المعنية، وأولها رئيس الحكومة ووزير المال المعنيين بالمشاورات، ناهيك بالكتل المشاركة في هذه المشاورات، بايصاد ابواب المهل.
هل يخفي تباطؤ الموازنة محاولة جديدة لتأجيل قطع الحساب؟


على غرار خطة الكهرباء، وضع عون امام المعنيين خيارين اثنين: الاتفاق على كل التعديلات المطلوبة للموازنة في اجتماعات ومشاورات تعقد خارج مجلس الوزراء بحيث تصل الى المجلس برسم المصادقة عليها، او مناقشة بنودها داخل مجلس الوزراء الى ان ينتهي منها. قد لا يكون ثمة فارق جوهري بين كلا الخيارين، كون المعنيين بمناقشة موازنة 2019 في مجلس الوزراء كما خارجه هم الافرقاء انفسهم الكتل الرئيسية التي يتكوّن منها مجلسا النواب والوزراء. وهم الذين يعوّلون على توافقهم لامرار المصادقة على الموازنة في المجلسين. وهم الذين يصرون كذلك، شأن اي استحقاق آخر، على ان لا يصير الى امراره الا بالتوافق الملازم لحكومة الوحدة الوطنية من جهة، ولتفادي الذهاب الى التصويت من جهة اخرى.
مع ذلك ارتأى رئيس الحكومة ادارة مناقشة الموازنة في اجتماعات تشاورية مع الكتل الرئيسية بعيداً من مجلس الوزراء، متفادياً بذلك تعريض الحكومة لخلافات علنية، وانقسامها بإزائها الاكلاف الباهظة التي يقتضي بوزرائها - وهم وزراء الكتل النيابية الرئيسية - تسديدها بغية خفض العجز.
برّرت وجهة النظر الاخرى ان اي خلاف ينشأ لدى مناقشاتها على هامش مجلس الوزراء في المشاورات الجانبية، يتيح للمجلس لاحقاً الاحتكام اليه في بت التباين في وجهات النظر.
ومن دون تعويل رئيس الجمهورية على صلاحيات دستورية لا يملكها لفرض استعجال انجاز الموازنة، واحالتها على مجلس الوزراء، مكتفياً بالثقل المعنوي الذي اظهر جدواه عند استعجاله اقرار خطة الكهرباء، يستند في دخوله على خط مشاورات الموازنة الى الملاحظات الآتية:
1 - ان لا موجب لمزيد من اهدار الوقت، بعدما بلغ اليه «تدفيش» الوزراء، بعضهم البعض الآخر، كي لا يكون التخفيض في وزارته على حساب سواه، او على الاقل احتفاظه بحد ادنى من الامتيازات. ينظر عون الى الموازنة المتقشفة على انها اول ولوج جدي الى الاصلاح ومكافحة الفساد.
2 - استمرار الخلافات في المشاورات الجانبية، من دون احراز اي تقدم في الوصول الى تفاهم، يجعلها تراوح مكانها، ما يقتضي اذذاك العودة الى مجلس الوزراء الذي يبت الخلاف بالتوافق او التصويت اذ اقتضى الامر.
3 - مع ان اقرار خطة الكهرباء استبق المصادقة على مشروع الموازنة، بيد ان رئيس الجمهورية يضع مشروع الموازنة على رأس الاولويات الاربع التي يستعجلها للحؤول دون الوقوع في المحظور الاقتصادي: الموازنة، خطة الكهرباء، الخطة الاقتصادية للقطاعات الانتاجية، مكافحة الفساد.
4 - ثمة بضع علامات استفهام حيال التباطؤ المتعمد في انجاز الموازنة قد لا يرتبط بها مباشرة، بل بالحسابات المالية المودعة قيد الدرس لدى ديوان المحاسبة. بعدما تعهدت الحكومة السابقة عند مناقشة موازنة 2018 وضع قطع الحساب في عهدة البرلمان في الموازنة التالية، فإن اكثر من اشارة تشير الى تعذر وصول قطع الحساب الى المجلس لدى درسه موازنة 2019. ما يفصح تالياً عن احتمال افتعال مأزق يرتبط بالموازنة، بغية تبرير تمديد مهلة عدم التقدّم بقطع الحساب الذي سيعيد مجدداً الخوض في فقدان 11 مليار دولار منذ عام 2005.