صحيح أن السخرية لطالما زاد شيوعها مع معاناة الشعوب، ولطالما اعتُبرت مؤشراً صحياً في المجتمعات الحيّة، وكانت ملاذ المفكرين للتصويب على الخلل، لكنها تغدو مؤشراً للإعتلال إذا ما انحرفت عن غايتها الإصلاحية وتحولت اتهامات اعتباطية. الصدمة الموجعة أن بعض (كي لا نقع في فخ التعميم) «الأساتذة الجامعيين» تبنوا هذا «التنمر» وساهموا في نشره، بينما من المفترض أنهم تعلموا حين «تدكتروا» بعضاً من منهجية البحث العلمي ووجوب التحقق قبل تبني الفرضيات، خصوصاً تلك التي تنبع بغزارة من فضاء مفتوح لا رقيب عليه أو حسيب. للأسف هؤلاء -كما الكثير من المستهزئين - يحملون شهادات جامعية (!)، لكن لا يفقهون - إلا ما ندر - في مجالات عملهم، فكيف بهم في نطاقٍ آخر، ومع هذا لا يتورعون عن إطلاق العنان لتأويلاتهم الباطلة. المعيب أيضاً أن إحدى صحافيات محطة تلفزيونية «عالمية» تعيد تغريدة مهينة على حسابها، وتغفل أن من بديهيات مهنتها الإستقصاء قبل تعميم أي معلومة بلهاء! المضحك المبكي، أيضاً، أن الكثير ممن يمعنون في التعسّف يبررون فعلتهم بعدم درايتهم، مع العلم بأنهم يجيدون استخدام التكنولوجيا الحديثة للتشهير، لكنهم لم يكلفوا أنفسهم اللجوء إليها للبحث عن المعرفة! كل هؤلاء يشكلون الخطر الأكبر لأنهم المساهمون الفعّالون في نشر ثقافة الجهل، فيتلطون خلف ألقابهم البرّاقة لإضفاء المصداقية على ترّهاتهم وتسويقها على أنها الحقيقة المطلقة.
ما يثير الريبة أن «هجمات المسخرة والإدانة» لا تستهدف إلا المؤسسات العامة
وفي كل الأحوال، هذه الفئات التي تُصنف «متعلمة» وتتعاطى الشأن العام بهذه الذهنية هي البرهان الأوضح على هشاشة الوعي وتدهور الحس النقدي وتراجع الثقافة بشكل عام. وفي هذا الإطار، واهمٌ من لا يرى رابطاً، ضمن ما أورده فييفيوركا، بين هذا «الترند» والإنترنت وإقتصاد الإنتباه وأثر الرقمنة على طريقة تفكيرنا وسلوكنا (يساهم ضعف الأبحاث في حقل الإنسانيات الرقمية في تكريس هذا الوهم).
تدفعنا هذه «الطفرات» لطرح العديد من التساؤلات. على سبيل المثال، كيف لمواطن أن يبتغي العدالة من دولته وهو لا يتوانى عن إدانة مسبقة لمؤسسة أو لموظف، فقط لأنهما ينتميان الى القطاع العام، أو فقط - وبكل بساطة - لأنه عاجزٌ عن استيعاب اسم المؤسسة أو طبيعة مهامها؟ كيف لمواطن أن يطالب بالحقيقة في قضاياه المصيرية وفي الوقت نفسه لا يكبح جموحه عن التضليل وبث الإشاعة؟ علينا التذكير بأن مقولة «السيادة يجب أن تكون للحقيقة والعدالة لأنهما وحدهما يضمنان عظمة الأمة» (إميل زولا) لا تخص حصراً المنظومة السياسية والقضائية، بل أيضاً سلوك المواطن الفردي ومقاربته لأبسط القضايا المحيطة به كي تكون الحقيقة ومعها العدالة، العامة والفردية، القاعدة التي تُبنى عليها قيم المواطنة ومقومات الأمّة «العظيمة».
ما يثير الريبة في ما نشهده، وبوتيرة متصاعدة، هو أن «هجمات المسخرة والإدانة» هذه لا تستهدف إلا المؤسسات العامة وتساهم (عن قصد أو غيره) في ضرب القطاع العام بأكمله بحجة فساده، من دون أي تمييز بين الغث والسمين، وبين من يُفسد ومن يتمسك بالعمل والنزاهة للإبقاء على بعض ما تبقى لنا من مؤسسات فعالة ومنتجة ومحصنة ضد الإفساد... المطلوب منا جميعاً بعض من التواضع وقليل من الجهد لتصويب استهزائنا «البنّاء» حيث يجب، فاليوم الذي يُعدَم فيه القطاع العام بأكمله نكون نحن المواطنين، بسبب جهلنا وركوننا للإتهامات الجاهزة وشمل الكل بها، المسؤولين بالدرجة الأولى!
* باحثة، مديرة برنامج منح الدكتوراه في المجلس الوطني للبحوث العلمية