إعادة هيكلة في «بنك ميد». هذه هي المهمة التي أتت بالمصرفي راوول نعمة مديراً تنفيذياً للمصرف في لبنان. تنطوي المهمة على أكثر من مسار: تقليص المصاريف التشغيلية، زيادة الربحية. مساران يعنيان بلغة أهل المصارف صرف الموظفين وتقليص المكافآت وخفض النفقات الأخرى، وتحويل محفظة العقارات إلى سيولة قابلة للتوظيف، ووقف النزف من الخسائر سواء عبر تخفيف أعباء التسليفات المشكوك بتحصيلها أو عبر الانخراط أكثر في الهندسات المالية التي يجريها مصرف لبنان. لا يحبّذ نعمة استعمال كلمة «تنظيف»، إلا أنه في الواقع كانت هذه المهمة الأساسية لوجوده كمدير تنفيذي في المجموعة. قيل الكثير عن المرجعية التي اقترحت نعمة لهذا المنصب، وهو المعروف بسلوكه غير التقليدي في العمل المصرفي، إلّا أنه يعلن بوضوح أنه تسلّم موقعه في المجموعة بناء على اتفاق مع الشريك الجديد علاء الخواجة. يؤكد نعمة أن «عملية إعادة الهيكلة كانت قد بدأت بالفعل قبل تسلّمي مهامي في البنك»، لكنه يشير إلى أن الهدف منها أن «ينمو المصرف». هذا الأمر يتطلّب «صرف الموظفين وإعادة التوظيف بناء على هيكلية إدارية مختلفة ومسالك عمل أكثر فعالية».في عام 2010 كانت المصاريف الإدارية لمجموعة البحر المتوسط تبلغ 106 ملايين دولار، وقد ازدادت في عام 2012 لتبلغ 110%، وقفزت في 2017 إلى 138 مليون دولار. وفي المقابل كانت أرباح المصرف 105 ملايين دولار في 2010 ثم ارتفعت إلى 128 مليون دولار، وعادت إلى الانخفاض في 2017 إلى 104.5 مليون دولار.
هذا الاختلال في التناسب بين المصاريف الإدارية والأرباح المحقّقة، كان يمكن أن يكون أكبر بكثير لولا تدخّل مصرف لبنان في أكثر من مناسبة لتعويم المصرف، ولولا عمليات تسييل الأصول.
ففي عام 2009 حصل المصرف على قرض ميسّر من مصرف لبنان بقيمة 91 مليار ليرة تم توظيفها في سندات خزينة بالليرة اللبنانية واستُخدمت الأرباح الناتجة منها بقيمة 19.5 مليار ليرة في إطفاء الخسائر المترتبة على البنك. وفي السنوات التالية، حصل المصرف على أكثر من سلّة إمداد بالسيولة من مصرف لبنان، كان أبرزها في 2014 و2015 حين أقرضه مصرف لبنان نحو 600 مليون دولار من أجل شراء شهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان بقيمة 1070 مليون دولار، وأجرى الكثير من عمليات المبادلة مع مصرف لبنان بين سندات يوروبوندز كان يحملها في محفظته بشهادات إيداع صادرة عن مصرف لبنان. هذه العمليات كانت تحقق له الكثير من الأرباح السهلة والسريعة نظراً إلى الفرق الكبير بين مردود السندات ومردود شهادات الإيداع. ومن أوقح العمليات التي أجراها مصرف لبنان مع المصرف كانت في عام 2014 حين باعه شهادات إيداع قيمتُها السوقية 500 مليون دولار بسعر 458.8 مليون دولار، ما أتاح للمصرف تسجيل أرباح فورية من هذه العملية بقيمة 41.9 مليون دولار.
استمرّت هذه العمليات المالية بين مصرف لبنان والمصرف على مدى أكثر من خمس سنوات، وإنما بأشكال مختلفة. الأرباح المحققة في 2015 بلغت، بحسب التقرير السنوي لمجموعة البحر المتوسط المنشورة على الموقع الإلكتروني، 236.9 مليار ليرة. ثم في صيف 2016 انخرط المصرف بالعمليات المالية المعروفة باسم «هندسات مالية» وحقق منها أرباحاً بقيمة إجمالية تبلغ 234.8 مليار ليرة، علماً بأن نعمة يؤكد أن المصرف «لم يستفد بأكثر من 100 مليون دولار من هذه الهندسات». كذلك يقول إن «الهندسات المالية التي شارك فيها «بنك ميد» كانت مفتوحة لكل المصارف ولم يستفِد من هندسات خاصة».
على أيّ حال، لم يكتفِ مصرف لبنان بالإغداق على مجموعة البحر المتوسط بالأرباح السهلة والمموّلة من المال العام. ففي 21 آب 2017 وصلت طلبات المصرف إلى حدود «استبدال التوظيفات الإلزامية بالدولار الأميركي بشهادات إيداع مصرف لبنان». عندها عدّل مصرف لبنان في طريقته في التعامل مع مجموعة البحر المتوسط، فلم يوافق على طلبها، وإنما منحها موافقته على الاقتراض من مصرف لبنان بفائدة 2% مقابل رهن سندات خزينة بكافة العملات، واشترط ألّا يتم استعمال العمليات «لتحقيق مدخول آني، بل تغطية النقص في المؤونات المتوجبة تدريجاً خلال عشر سنوات».
يومها طلب مصرف لبنان من المجموعة، بما يشبه حفظ ماء الوجه، أن تعمل على «تحصيل الديون المشكوك بتحصيلها بكافة الوسائل القانونية على أن تخصّص القروض المحصّلة لتخفيض المؤونات»، علماً بأنه كان قد وافق «على أن يتملّك المصرف عقارات استناداً إلى المادة 154 من قانون النقد والتسليف سداداً لديون مشكوك بتحصيلها، على أن تخصّص المؤونات المكونة مقابلها لدعم الأموال الخاصة غير القابلة للتوزيع وأن تقوم لجنة الرقابة على المصارف بتحديد تفاصيل التملك وقيمها وفقاً للأصول».
ليس هناك إيحاءات في كلام مصرف لبنان أوضح من أن المصرف كان يمرّ بأزمة قد تنسفه من أساسه. فهو قدّم دعماً شبه مطلق للمصرف. بعض العمليات التي نفّذها مصرف لبنان لمصلحة مجموعة البحر المتوسط، كانت مخفية عن عيون لجنة الرقابة على المصارف، إلا أنها كانت تجري بعلم رئيس اللجنة سمير حمود الذي كان يعمل سابقاً في المجموعة. اكتشاف هذه العمليات أدّى إلى نشوء خلاف بين حمود وعضو لجنة الرقابة أحمد صفا.
استردّ عقارات مقابل الديون من فريد مكاري، ولا يزال يحاول استرداد ديونه من ابن السنيورة


في هذا الوقت، كان المصرف يحقّق أرباحاً من عملياته مع مصرف لبنان ويطفئ الخسائر ويخفّض الأعباء المترتبة عليه في ميزانيته، إلّا أن أوضاعه كانت تزداد صعوبة ولا سيما لجهة تسجيل نسب ملاءة مقبولة فيما يواجه تعثّراً في سداد القروض بلغت قيمته في نهاية 2017 نحو 990 مليار ليرة، أي ما يوازي 14.7% من مجمل تسليفات المصرف للقطاع الخاص، ما دفعه إلى التركيز على عمليات تسييل الاستثمارات والعقارات التي يحملها في محفظته.
مسار تسييل الاستثمارات بدأ منذ فترة طويلة بهدف إتاحة المجال للمصارف للاستفادة من ناتج المبيعات في عمليات مالية مع مصرف لبنان تحقق له المزيد من الأرباح وتخفّف أعباء المؤونات المتوجبة عليه في مقابل الاحتفاظ بالعقارات المستردّة مقابل الديون المتعثّرة. المشكلة في هذا المجال، أن أسعار العقارات والاستثمارات الأخرى في ميزانيته كانت مخمّنة بنحو 450 مليار ليرة (نحو 300 مليون دولار)، فيما كانت تقديرات الإدارة أن سعرها السوقي يصل إلى مليار دولار. إعادة تخمين العقارات يرتبط عضوياً بقيمة التخمينات التي توافق عليها لجنة الرقابة على المصارف. لذا، فقد اختلفت التخمينات بين المصرف ولجنة الرقابة ومصرف لبنان إلى أن جرت تسوية الأمر لمصلحة المصرف مجدداً.
رغم ذلك، اضطر المصرف أن يتخلّى عن استثماراته في فترات مختلفة. باع حصّته في شركة «لايت ميتال» لصناعة الألمنيوم بقيمة 7 ملايين دولار. وباع أيضاً Beverly Hotel، بقيمة 9.2 مليون دولار. وباع شركات تابعة أخرى محققاً نحو 323 مليار ليرة. كذلك باع حصّته في CSC Bank والتي كانت تبلغ 40% من الأسهم، بقيمة 527.7 مليار ليرة.
كذلك استردّ عقارات مقابل الديون من فريد مكاري، واستردّ ديونه من ميسرة سكّر… ولا يزال يحاول استرداد ديونه من ابن فؤاد السنيورة والتي تصل إلى 7 ملايين دولار.
يقول نعمة إن مصرف لبنان أجبره على تسييل العقارات المستردّة مقابل دين من أجل خفض قيمة المؤونات في محفظته، «كما أن تجارة العقارات لا تقع ضمن عمل المصارف، فيما يمكن توظيف هذه المبالغ وتحقيق أرباح أعلى». لذلك، يؤكد نعمة أنه جرى بيع عقارات «بأسعار أعلى من التخمين وأعلى من الأسعار الدفترية. في السنة الماضية حققنا أرباحاً جيدة من تسييل العقارات». ومن ناحية ثانية، «كانت عملية تسييل العقارات توفّر للمصرف سيولة بالدولار في وقت تعاني فيه السوق من أزمة بهذا الخصوص، ما سمح لنا بالقيام بعمليات تحويل من الليرة إلى الدولار رغم أن بعض المصارف كانت تماطل مع زبائنها في هذا الأمر».