فيما يرتفِع منسوب العداء للقطاع العام، يتقدّم مشروع «الشراكة بين القطاعين العام والخاص»، مع سعي مجموعة من السياسيين والاقتصاديين إلى تسويقه بوصفه الخيار الوحيد لإعادة النهوض بالبلد. ولكي «يكتمِل النقل بالزعرور» أُعيد إحياء المجلس الأعلى للخصخصة، وتضاعفت أعماله ومسؤولياته وفق قانون الشراكة الذي أقرّه مجلس النواب في عام 2017، والذي نصّ على التفويض إلى المجلس (بعدَ إضافة كلمة «والشراكة» إلى تسميته) القيام بمهمات جديدة بنحو مثير للجدل. في لغة السياسة، يريد دعاة المشروع من خلال هذا التفويض تصوير «المجلس» بصفته الجهة المخوّلة تنفيذ المشاريع الإنقاذية. لكن المواد كما يلحَظها القانون تؤكّد بما لا يدَع أي مجال للشك أن التفويض ليسَ سوى خرق للدستور وتضارب للصلاحيات مع الحكومة وتقليص سلطة الوزراء على القطاعات التي يشملها القانون (الاتصالات والكهرباء والطيران المدني).ليسَ قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص بالجديد. طرحته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في عام 2007. لكن حالت دون إقراره حينذاك الأزمة السياسية في البلاد بينَ فريقي 8 و14 آذار ومقاطعة وزراء الأخير للحكومة بالتزامن مع إغلاق المجلس النيابي آنذاك. أعيد إحياؤه كاقتراح قانون تقدّم به علي حسن خليل (كنائب في تلك الفترة)، وكان نسخة مكّررة عن مشروع الحكومة، فدُرس في لجنة وزارية ترأسها سعد الحريري وأجريت عليه بعض التعديلات، قبلَ أن تُسارع القوى السياسية إلى إقراره عام 2017. فأي هدف يقف خلف إقرار القانون وما هي المنفعة منه، علماً أن الدولة اللبنانية تلزّم مختلف أشغالها لمتعهدين ومؤسسات من القطاع الخاص (محلي وأجنبي)، يقبضون أموالاً لقاء تقديمهم مشاريع وخدمات؟ وهل الفكرة الأساسية من مُصطلح الشراكة، تراجع الدول والمؤسسات الدولية عن إقراض الدولة اللبنانية بسبب التصنيفات السلبية الصادرة بحق لبنان، التي يتحدث بعضها عن صعوبة استدامة الدين العام، في مقابل إقراض القطاع الخاص بما سيرفع نسبة أرباحه ويضمن عوائد المشاريع؟ هل قانون الشراكة بريء من الخصخصة، وما دور «المجلس» في كل هذه العملية؟
يتراجَع دور كل وزارات الدولة ومؤسساتها، كما يُبشّرنا القانون، لمصلحة «المجلس الأعلى للخصخصة»، في ما يشبه محاولة استنساخ تجربة مجلس الإنماء والإعمار (ولو بصلاحيات وطبيعة مختلفتين) لجهة تسويقه كحل فعال وغير فاسد وغير مكلف لتنفيذ المشاريع الكبرى. ومع أنه ليسَ بالجديد، إلا أن الصلاحيات الجديدة التي أعطيت له تضعنا أمام نموذج آخر من الإدارات الرديفة عن الدولة ومؤسساتها، مع فارق كبير وخطير، يتمثّل في أن الصلاحيات المُعطاة له (وفقَ نصوص ملتبسة) تحلّ محل مجلس الوزراء نفسه والوزارات والهيئات والمؤسسات الرسمية. إذ يحقّ لرئيس المجلس الأعلى للخصخصة اقتراح المشاريع، وتقوم الأمانة العامة للمجلس نفسه بإعداد دراسة للمشروع الذي اقترحه رئيسها، ويستمزج هو رأي القطاع الخاص بها. ويوافق المجلس نفسه على المشروع الذي اقترحه هو، فيؤلّف لجنة للمشروع تضمّ ممثلاً عن الوزير المختص وممثلاً عن وزير المالية ورئيس الهيئة المنظمة للقطاع عندَ وجودها. وتستعين هذه اللجنة بفريق عمل ينسّق نشاطات المشروع مع أشخاص ذوي خبرات معينة بحسب الحاجة، مع الإشارة إلى أن أي أجر إضافي يستحق لأحد أعضاء اللجنة يكون على عاتق الدولة! وهنا تجدر العودة إلى موازنة عام 2019 التي حدّدت مساهمة الدولة في مشروع موازنة المجلس بمبلغ وقدره مليار ليرة لبنانية، وهي بدل رواتب وأجور، فضلاً عن المساهمة في نفقات جارية أخرى يقررها في ما بعد وزير المالية! وسيرتفع تمويل المجلس إلى 120 مليون دولار (مقسمة على خمس سنوات) في حال السير بقرض البنك الدولي لخلق فرص عمل للشباب، ستذهب كلها لقاء استشارات ودراسات. كذلك تدخل ضمن صلاحيات المجلس (بعد موافقة الحكومة على المشروع) درس طلبات التأهيل. إذ تزوّد لجنة المشروع التابعة للمجلس، الراغبين في التأهل بالمعلومات والتعليمات اللازمة ليتقدموا بطلباتهم على أساسها. وتقوم بدراسة طلبات التأهيل وفقاً للمعايير التي أعلنتها لجنة المجلس، على أن ترفع الأخيرة اقتراحاً بأسماء المؤهلين. وتتولى اللجنة ذاتها أيضاً إعداد مسودة دفتر شروط، يمكن تعديلها بعد مشاورات مع المرشحين المؤهلين، قبل أن يرسل إلى الحكومة للموافقة عليه. ما يعني عملياً إلغاء الدور الممنوح لإدارة المناقصات في عقد الصفقات والهيئات المنظّمة للقطاعات المختلفة.
التفويض الذي أعطي للمجلس ليسَ سوى خرق للدستور وتضارب للصلاحيات مع الحكومة


يعود بعض الاقتصاديين إلى حقبة الرئيس الراحل رفيق الحريري للحديث عن المجلس. ويصفه هؤلاء بـ «البدعة التي اختُرعَت في سبيل تهريب بعض مشاريع الخصخصة، من دون أن تمُر في مجلس النواب»، خاصة أن تلك الفترة شهدت أيضاً تزخيم مشاريع بيع قطاعات الدولة من الكهرباء إلى المياه إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي، قبلَ أن يتوقف المشروع كله بسبب اغتيال الحريري، وكان أول من تولّى رئاسته النائب السابق غازي يوسف قبل مجيء زياد حايك.
ويقول هؤلاء إن الشراكة بين القطاعين «خصخصة مقنعة»، وهي مطلب أساسي من البنك الدولي ويدعي أنه «بهدف تأمين ضخ مالي من القطاع الخاص بشكل ينشّط الاقتصاد». أما إيكال مهمات تنفيذ مشاريع الشراكة إلى المجلس الأعلى للخصخصة، فإنه برأيهم «تكرار تجربة إلغاء أدوار الوزارات واستبدال مجالس خدمات بها، تقوم على توزيع موارد الدولة على النافذين والمتعهدين المقربين من المسؤولين داخل «الأعلى للخصخصة»».
إذاً، نحن أمام نموذج جديد من مجالس الجنوب والمهجّرين والإنماء والإعمار؟ يرفض اقتصاديون هذا التشبيه، لأن «صلاحيات المجلس الأعلى للخصخصة أبعد بكثير من مجرّد دور تنفيذي». فتلك المجالس، على عكس ما هو سائد في اعتقاد البعض «ليسَت بديلاً من الوزارات، فهي مجالس تنفيذية للمشاريع في مختلف مراحلها، وليست أجهزة لتخطيط المشاريع». أما في حالة المجلس الأعلى للخصخصة، فهناك «تغييب مقصود للسلطة، التي لم تعُد لديها صلاحية وضع دفتر الشروط، بل يدخل ذلك ضمن إطار مهمات المجلس ومن ثم يوافق عليه مجلس الوزراء».